الخلاف بين مجلس القضاء الأعلى، وهو الجهة الإدارية العليا للقضاء العادي الذي يضم محكمة التمييز والادعاء العام وهيئة الإشراف القضائي ومحكمة استئناف، وبين المحكمة الاتحادية العليا التي تعتبر "القضاء الدستوري"، وتتضمن رئيساً وثمانية أعضاء وتعمل بشكلٍ مستقل عن القضاء العادي، بدا محتدماً وغير مسبوق. فقد تصاعدت الخلافات منذ أكثر من شهر، بعد بيان مفاجئ لمجلس القضاء الأعلى، اعتبر فيه أن قرارات المحكمة الاتحادية غير ملزمة وليست دستورية بسبب اختلال نصابها. وذكر المجلس في بيانه أن "قانون المحكمة النافذ يوجب أن تتكون المحكمة من رئيس وثمانية أعضاء، ولا يكون انعقادها صحيحاً إلا بحضور جميع أعضائها، وطالما أن أحد أعضاء المحكمة أحيل على التقاعد فقد اختلّ نصاب المحكمة، وبالتالي فإنّ كل ما يصدر عنها معدوم ولا يمكن أن يوصف قرارها بأنه ملزم".
قبل أن يعود المجلس ذاته مرة أخرى للطعن بقرار المحكمة الاتحادية المؤيد لأحقية رئيس الجمهورية برهم صالح تكليف عدنان الزرفي بتشكيل الحكومة، في بيان صدر عنه يوم الأربعاء الماضي. وقال رئيس المجلس، القاضي فائق زيدان في بيانه، إن "تكرار كلمة (يكلف) رئيس الجمهورية، وتكرار كلمة (مرشح) في فقرات المادة 76 من الدستور، معناه أن رئيس الجمهورية واجبه (التكليف فقط) للمرشح الذي تقدمه الكتلة المنصوص عليها في المادة، وهي الكتلة الأكبر عدداً، والتي تتشكل بعد الانتخابات"، موضحاً أن "حق تكليف المرشح، من دون موافقة الكتلة التي رشحته، لا ينتقل لرئيس الجمهورية مطلقاً، لأن هذا التفسير خاطئ، وخصوصاً أنه صدر عن محكمة ناقصة النصاب قانوناً (في إشارة إلى المحكمة الاتحادية)". موقف القاضي اعتُبر طعناً مباشراً لقرار المحكمة الاتحادية، التي أيدت خطوة الرئيس في تكليف عدنان الزرفي لتشكيل الحكومة.
في السياق، أشار عضو بارز في البرلمان إلى أن الخلافات بين مجلس القضاء والمحكمة الاتحادية تحوّلت إلى سياسية وليست فقهية حول تفسير الدستور، الملتبس أصلاً في كثير من بنوده. وأضاف في حديثٍ لـ"العربي الجديد" أن "أساس الخلافات يكمن في أنه تمّ ترشيح أعضاء المحكمة الاتحادية من الأحزاب الحاكمة. كما أن كل مفاصل مجلس القضاء الأعلى تمّت تسميتهم أو مراعاة تسميتهم، من قبل الأحزاب أيضاً، على غرار مفوضية الانتخابات السابقة. ولم يحصل الأمر في الفترة الأخيرة، بل منذ سنوات ما بعد عام 2006، إذ بات هناك قضاة سنة وآخرون شيعة وأكراد، وكل حزب يستأثر بحصة، لذا، ومع اتساع وتصاعد الأزمة، دخل الجهازان القضائيان على خطها للانتصار لفريق على آخر". واعتبر أن القضاء لم يكن مستقلاً منذ سنوات وجزء كبير من قراراته يراعي رغبة الأحزاب، بدليل أن هناك 53 قضية فساد مالي وانتهاكات يرفض القضاء فتحها، بدءاً من سقوط الموصل مروراً بصفقة الطائرات والتسليح الذي استنزف العراق بمئات الملايين من الدولارات، وانتهاءً بعمليات الخطف والقتل للمتظاهرين.
لكن أحد أعضاء المحكمة الاتحادية، وهو قاضٍ، يرفض في حديث لـ"العربي الجديد" أن يسمّي ما يحدث بين المحكمة الاتحادية ومجلس القضاء الأعلى "خلافات"، واصفاً الأمر بأنه "تداخل بالصلاحيات وأخطاء مرحلة تأسيس الدولة العراقية بعد 2003". ويشير إلى أن "مشكلة المحكمة الاتحادية خلال المرحلة الحالية تكمن في نقص أحد أعضائها، وبالتالي نبحث عن مخرج قانوني سليم لإعادة ترتيب الفريق الكامل للمحكمة"، مقراً بأنّ الجهاز القضائي العراقي ككل أصيب بلوثة الأزمات السياسية المتواصلة، ولا يمكن نكران ذلك، لكن المحكمة الاتحادية حالياً أفضل تشكيل من بين التشكيلات القضائية الأخرى كونها مؤلفة من أعضاء عدة وبمجلس يعتمد التصويت في قراراته.
من جهته، قال رئيس اللجنة القانونية النيابية في مجلس النواب السابق محسن السعدون إن "الدستور العراقي بات موضع اجتهادات، ولو أن البرلمان التزم بما ورد في الدستور وأصدر قانون السلطة القضائية لكانت كل الخلافات والمسائل العالقة بين الدوائر القانونية قد حسمت، لأن السلطة القضائية، كما وصفها الدستور، مكوّنة من مجلس القضاء والمحكمة الاتحادية ورئاسة الادعاء العام والإشراف القضائي والمحاكم الأخرى، لكن مجلس النواب لم يصدر هذا القانون المتعلق بهذه السلطة المصنّفة سلطة ثالثة في العراق". وأوضح في حديثٍ لـ"العربي الجديد" أن "ما يفرز بعض المشاكل بين مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية هو عدم انسجام عمل الأول بعمل الثاني، غير أن هناك قنوات اتصال بينهما، لحاجتهما الواحد إلى الآخر. فمجلس القضاء الأعلى مختصّ بالقانون العام، أما المحكمة الاتحادية فهي محكومة باتجاهين: الأول الاتجاه الديني وإعطاء الامتيازات للديانات والمذاهب، والآخر لإيجاد النصوص التي تؤدّي إلى استقامة بقية القوانين المعمول بها، وبالتالي فهي بحاجة إلى استقلالية كبيرة، وعدم صدور قانون السلطة القضائية هو قصور من البرلمان".
أما عضو اللجنة القانونية في البرلمان، حسين علي كريم، فقد أشار إلى أن "ما يحدث بين المحكمة الاتحادية ومجلس القضاء الأعلى لا يسمى خلافاً إنما تداخلاً بالصلاحيات، ولكن بطبيعة الحال فإنه لم يتم الحديث عن قانون السلطة القضائية الذي يُحدد الصلاحيات منذ عام 2004 ولحد الآن، ولم يتم الاتفاق على تشريع القانون ولا طرحه على التصويت". وأضاف لـ"العربي الجديد" أن "قانون السلطة القضائية يجمع كل المسميات، ومن المفترض أن تكتمل السلطات في العراق، وهي السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومع وجود الأخيرة، فسيكون كل جهاز قضائي يعرف اختصاصه وسلطاته وصلاحياته".
من جهته، أكّد الخبير القانوني طارق حرب لـ"العربي الجديد" أن "البرلمان أخطأ في عدم إقرار السلطة القضائية، لأن إقراره سيكون حاجزاً صلباً أمام مصالح بعض النواب والأحزاب، لأنه في حال غياب السلطة القضائية فإن الأحزاب يمكنها إصدار أي قانون يتناسب مع مصالح كتلها السياسية".