أعادت موجة الحرّ التي تضرب العراق، ومواصلة ارتفاع معدلات الفقر في البلاد، والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها المواطنون، الزخم إلى الاحتجاجات الشعبية التي تبلغ شهرها العاشر، والتي كانت قد شهدت انقطاعاً أو فتوراً لفترة، في ظلّ جائحة كورونا. وعاد المتظاهرون إلى الساحات في أكثر من محافظة، منذ يوم الأحد الماضي، تنديداً بانقطاع الكهرباء في موسم الحرّ، وبسبب الوضع المعيشي الضاغط، والذي لم تجد الدولة حلاً لتخفيفه بعد، رداً على مطالبات الحراك منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. هذا الحراك لم يعلن يوماً انتهاء فعالياته، فعلى الرغم من ظروف الوباء، إلا أن ساحات وميادين التظاهر حافظت على كيانها، وسط نظام مناوبات بين المعتصمين، خشية أن يملأها الفراغ الذي قد يؤدي إلى إمساك الأمن بمواقع التظاهر. ويشكل سقوط قتلى في الاحتجاجات الجديدة حرجاً لحكومة مصطفى الكاظمي، وهو ما تحاول أطرافٌ سياسية، منها الموالية لإيران، اللعب على وتره.
ولم تكن العاصمة بغداد وحيدة في استعادة التصعيد الشعبي، عبر التظاهرات الليلية التي شهدتها، إذ تبعتها النجف والمثنى وذي قار والبصرة، وبالأخص بلدة المناذرة التابعة إدارياً للنجف، والبطحاء جنوب الناصرية (مركز محافظة ذي قار). وردّد المتظاهرون في المحافظات جميعها الشعارات ذاتها التي كانت رفعت سابقاً ضد الأحزاب والفساد، وللمطالبة بتوفير الخدمات. ولم يتوانى المتظاهرون هذه المرة عن اللجوء للشتم، أو توجيه انتقادات حادة للسلطة، ما اعتبر مؤشراً على مدى حدّة الغليان الذي وصل إليه الشارع.
إلى ذلك، بلغ عدد الضحايا الذين سقطوا خلال التظاهرات التي خرجت منذ يوم الأحد الماضي أربعة قتلى، من بينهم المواطن الستيني أبو أحمد النحات، وفتىً يبلغ من العمر 16 عاماً، وقضوا جميعاً بنيران الأمن، فضلاً عن سقوط 59 جريحاً، بينهم 20 في النجف، والباقون في بغداد. وأظهرت صور ومقاطع فيديو نشرها ناشطون في الحراك الشعبي على مواقع التواصل الاجتماعي استخدام الأمن للرصاص الحي والضرب بالهراوات بحق المتظاهرين، وذلك في ساحة التحرير وحديقة الأمة، وسط بغداد، فضلاً عن قيام قوات مسلحة ملثمة بإحراق سرادق الاعتصام. وتسبب هذا المشهد باستياء شعبي كبير، كونه يعد أول الغيث من عودة الاحتجاجات.
من جهته، سعى الكاظمي إلى النأي بحكومته عن ممارسات الأمن العنفية، معتبراً في تصريحٍ له أن "تظاهرات الشباب حقّ مشروع، وليس لدى القوات الأمنية الإذن بإطلاق، ولو رصاصة واحدة تجاه المتظاهرين"، مشيراً إلى "فتح التحقيق في ملابسات ما حدث". كذلك ألمحت الحكومة إلى تحميل "طرفٍ آخر" مسؤولية إطلاق النار على المتظاهرين، في محاولة لتبرير موقفها، وحماية القوات الأمنية.
دخلت أطراف سياسية وفصائل مسلحة مدعومة من إيران على خطّ الدعم الإعلامي للتظاهرات، نكاية بحكومة الكاظمي
واستتباعاً لهذا التوجّه، كشفت وزارة الداخلية العراقية عن النتائج الأولية للتحقيق في أحداث ساحة التحرير في بغداد، مشيرةً إلى رصد "مجموعات إجرامية خطيرة، تسعى لصنع الفوضى، عبر ضرب المتظاهرين من الداخل، وافتعال الصدامات مع الأجهزة الأمنية"، داعية المتظاهرين إلى "التعاون لحماية الساحة، وضبط العناصر التي تحاول تنفيذ أعمال اغتيال بهدف نسبها الى القوات الأمنية".
أما الجديد السياسي في الاحتجاجات، فيتمثل بدخول الأطراف السياسية والفصائل المسلحة المدعومة من إيران على خطّ الدعم الإعلامي الظاهري للتظاهرات، وقد يكون ذلك نكاية بحكومة الكاظمي، وفي انقلاب كامل عن موقفها من الحراك الشعبي خلال حكومة عادل عبد المهدي. ومن المعروف أن عدداً من الفصائل المسلحة المعروفة بـ"الولائية"، كانت قد شاركت في قمع التظاهرات، وحتى قتل وخطف ناشطين.
وفي السياق، أكدت مصادر سياسية قريبة من الكاظمي وقوع الأخير "في حرجٍ كبير بعد سقوط قتلى في التظاهرات، وبعدما وعد المحتجين بأنهم لن يواجهوا أي تعنيف من قبل قوات الأمن"، مقرة في حديث لـ"العربي الجديد" بأن "جهات عسكرية تأخذ أوامرها من قادة عسكريين برتب عليا". واعترفت المصادر، في هذا الإطار، بأن "الواقع يؤكد عدم سيطرة الكاظمي على بعض القوات الأمنية الموجودة على جسر الجمهورية، الرابط بين المنطقة الخضراء وساحة التحرير، ولذلك فهو بصدد استبدالها بقوة مكونة من جهازي الاستخبارات ومكافحة الإرهاب، ومنع أي عناصر من الحشد الشعبي أن تقترب إلى مناطق التماس مع المتظاهرين".
وأكدت هذه المصادر أن الدعم الإعلامي للتظاهرات من قبل فصائل مسلحة مدعومة من إيران، يأتي نكاية بحكومة الكاظمي، لكن هذه الفصائل تعلم في الوقت ذاته أن التظاهرات تجسّد ثورة مدنية، لا دينية، ورافضة للتدخل الإيراني ونفوذ المليشيات، وبالتالي فهي تهدد مستقبل هذه الفصائل، التي لن تحيد عن خط قمع الناشطين أو المتظاهرين، والذي ظلّت تمارسه منذ أشهر ضدهم.
من جهتهم، يؤكد متظاهرون وناشطون، بحسب ما رشح عن تصريحات عيّنة منهم التقى بها "العربي الجديد"، عزمهم على مواصلة الاحتجاجات، كونها الخيار الوحيد المتوفر لديهم، كما سيستمرون بالضغط على الحكومة، من أجل توفير الخدمات وتحقيق قائمة المطالب التي رفعوها خلال الأشهر الماضية. وتتخلص هذه القائمة بالكشف عن الجهات المتورطة بقتل المتظاهرين، وسوقها إلى العدالة، إضافة إلى تحديد موعد لإجراء انتخابات مبكرة وفق قانون انتخابي جديد، يضمن مشاركة الكيانات السياسية الجديدة التي تنبثق من ساحات الاحتجاج.
وقال الناشط العراقي البارز في الحراك ببغداد، الذي يعرف عن نفسه باسم علاء السومري، لـ"العربي الجديد"، إن "الاحتجاجات عادت إلى الميادين والساحات في البلاد من دون تنسيق، وقبل موعدها، وذلك بمبادرات من الأهالي الذين يشعرون بالسخط الكبير، لا سيما من الحكومة التي فشلت في توفير التيار الكهربائي خلال فصل الصيف". ولفت إلى أن "الاتفاق المبدئي بين الناشطين والفاعلين في التظاهرات كان يقضي باستئناف الاحتجاجات في الأول من أكتوبر المقبل، أي في الذكرى السنوية لبداية الحراك الرافض للنظام الحاكم في البلاد، لكن الاحتجاجات خرجت مبكراً".
وأشار السومري إلى "عدم تقديم حكومة الكاظمي حتى الآن أيّ شيء ملموس للعراقيين، ونحن نراقب نشاطها، لكننا لا نستطيع توصيفه سوى بأنه كارتوني وغير مجدٍ، علماً أن المتظاهرين كانوا يأملون خيراً من الكاظمي، ورأوا فيه بديلاً أفضل من عبد المهدي الذي تماهى مع ظاهرة السلاح المتفلت، وذهب بعيداً في علاقته بإيران ومليشياتها في العراق". وأكد الناشط العراقي أن "التظاهرات ستشهد تصعيداً كبيراً خلال الأسابيع المقبلة"، مبدياً في الوقت ذاته خشيته من القمع الحكومي، ما سيدفع الحراك للعمل على بناء السواتر مع القوات الأمنية والمليشيات التي تحمي المنطقة الخضراء، والتواصل مع بقية الساحات في المحافظات الوسطى والجنوبية في سبيل التأسيس لنظام أمني يحمي المحتجين".
سيسلك المتظاهرون طرقاً عدة، منها تفعيل زخم الاحتجاجات ومخاطبة المنظمات الدولية ورفع الدعم عن الكاظمي
أما عضو تنسيقية تظاهرات مدينة النجف علي الحجيمي، فقد أشار إلى أن "كل الخيارات مفتوحة حالياً أمام المحتجين بعد سلسلة الاغتيالات والقمع التي تعرضوا لها، إضافة إلى الملاحقات والخذلان في تحقيق المطالب المشروعة". ولفت الحجيمي في حديث لـ"العربي الجديد" إلى "طرق عدة سيسلكها المتظاهرون خلال المرحلة المقبلة"، منها "تفعيل زخم الاحتجاجات خلال الأيام والأسابيع المقبلة، إضافة إلى مخاطبة الجهات والمنظمات الأممية والدولية عبر وفود سيتم تشكيلها من المتظاهرين، في سبيل فضح العملية السياسية وفساد الأحزاب وإجرامها". كذلك لوّح برفع الدعم المعنوي والجماهيري من قبل بعض خيم المعتصمين لمصطفى الكاظمي، مع توحيد الخطاب لإسقاط حكومة الأخير عبر الاحتجاجات السلمية.
وتعليقاً على عودة الحراك، رأى سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، رائد فهمي، أن "القمع المستمر الذي يتعرض له المنتفضون ضد الفساد ونظام المحاصصة الطاغي في البلاد، لن تجني منه الحكومة التي تقودها أحزاب السلطة سوى المزيد من الاحتقان، بعد ارتفاع مستويات الاستياء والغضب والسخط". وحمّل فهمي في اتصالٍ مع "العربي الجديد" الحكومة ومجلس النواب "مسؤولية مقتل المتظاهرين". وبرأيه، فإن المتظاهرين أيقنوا أن "الفرصة التي طالب بها الكاظمي قد انتهت، وحان موعد عودة الاحتجاجات".