الحواجز الإسمنتية التي أزيلت أخيراً في العراق، في حال رصفت إلى جانب بعضها البعض، فإنّها قد تمتدّ إلى مئات الكيلومترات. وهذا ما دفع البعض إلى طرح فكرة تحويلها إلى ساتر يحمي حدود البلاد.
على مدى أكثر من 15 عاماً، كانت العاصمة العراقية بغداد مقطعة بحواجز إسمنتية، يُطلق عليها اسم "صبّات"، تمنع تنقّل الأشخاص والسيارات بسهولة بين المناطق، وذلك كجزء من الخطة الأمنية التي راحت تطبَّق في العراق على أثر التوتر الأمني الذي أعقب الغزو الأميركي للبلاد في عام 2003 والأعوام التي تلته.
وتلك الحواجز كانت تأتي بأحجام عدّة، والأكثر شيوعاً كانت الكبيرة التي يصل ارتفاع الواحدة منها إلى ثلاثة أمتار مع عرض يُقدّر بمتر ونصف المتر، لطالما ربط العراقيون إزالتها بالاستقرار الأمني في البلاد الذي يُعَدّ أمنية المواطنين الأولى. وأخيراً، شملت عمليات رفع الحواجز في العاصمة أهمّ الأماكن وأكثرها حساسية، أي المنطقة الخضراء، حيث المقرّات الحكومية والرسميّة عموماً، إلى جانب أخرى خاصة بسفارات أجنبية ومنظمات دولية وغيرها. وقد أفرح ذلك المواطنين الذين انطلق كثيرون منهم يصوّرون عمليات رفع تلك الحواجز ويتجوّلون في شوارع كانت مغلقة في وجوههم، قبل أن ينشروا تسجيلات فيديو وصوراً فوتوغرافية على حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
"فرح كبير"، هذا ما تشعر به ابتهاج عبد الغفور وتعبّر عنه لـ"العربي الجديد"، وتصف به حالها وهي تتجوّل مرّة أخرى في شارع كان مقفلاً أمام المواطنين في حيّ الأعظمية، شماليّ بغداد. تضيف المرأة الخمسينية أنّ "الشارع الذي شهد تعارفنا، زوجي وأنا، قبل ثلاثة عقود، حُرمت من المرور فيه لأكثر من عشرة أعوام". وتخبر بأنّ "أقاربي يسكنون هذا الشارع، هكذا تعرّفت إلى أحمد، جارهم الشاب الوسيم المثقّف. وقبل أيام مررنا في الشارع الذي يحمل أجمل ذكرياتنا للمرّة الأولى منذ عشرة أعوام، وقد رافقنا مصطفى وهو أوّل أحفادنا".
كثيرون هم المواطنون الذين لم يشاؤوا تفويت مشهد تلك الشاحنات الكبيرة التي راحت تنقل الحواجز من مواقعها إلى أمكنة خاصة عند أطراف العاصمة، ليختبروا شعوراً يختلف عمّا خبروه عندما كانت الحواجز تُنقَل في الاتجاه المعاكس، من معامل خاصة بتصنيعها عند أطراف العاصمة لتوضع في داخل أحيائها. طارق رحومي من هؤلاء، وقد راح يتفرّج على "عشرات الشاحنات المحمّلة بالحواجز وهي تمرّ من أمام مقهاي الشعبي في طريقها إلى جنوب العاصمة". ويخبر الرجل الستّيني "العربي الجديد"، بأنّه راح يرفع يده لكلّ واحدة من الشاحنات ملقياً تحيّة الوداع المتعارف عليها محلياً بأنّها توجَّه إلى الخصوم قائلاً "روحة بلا ردّة". ويؤكّد رحومي أنّ "شعوري بالفرح وأنا أشاهد تلك الشاحنات المحمّلة بالصبّات، لا يوصف".
ويصل الأمر ببعض العراقيين إلى حدّ التغزّل بالشوارع التي أعيد فتحها وبالمدن التي بدأت تعود تدريجياً إلى شكلها الأصليّ بعد رفع الحواجز الإسمنتيّة. يقول فلاح رميض لـ"العربي الجديد"، إنّ "بغداد تبدو اليوم كجميلة كانت محتجزة في سرداب مظلم"، مضيفاً "بدأت أشعر بالراحة. وأسير في بعض الشوارع وأنا أتأمّل المواقع القديمة للحواجز التي كانت تقطع شارعاً أو آخر إلى نصفَين، أو تفصل زقاقاً عن آخر يجاوره، أو تعزل قسماً من شارع بهدف توفير حماية لمؤسسة حكومية".
من جهته، يصف الشاعر علي سالم حال مدينته ديالى الواقعة في شرقيّ البلاد، بالقول: "بدأت تعود هذه الجميلة إلى سابق عهدها"، مضيفاً لـ"العربي الجديد"، أنّها "شابة تبرز مفاتنها وحسنها وجمالها من دون خجل. أراها تنتفض لتعود إلى سابق عهدها. أسواقها لا تهدأ وبساتينها تستقبل مرّة أخرى الزائرين القادمين من محافظات مختلفة للاستمتاع بمناظرها الساحرة".
على الرغم ممّا تترجمه تلك "الصبّات" من قساوة بالإضافة إلى تعبيرها عن مرحلة صعبة من تاريخ البلاد، فإنّ عدداً كبيراً من تلك الحواجز كانت تتمتّع بخصوصية ما. فقد استغل مواطنون وجودها وسط الشوارع الرئيسية وحوّلوها إلى وسيلة إعلان عن منتجاتهم أو محالهم وأعمالهم الخاصة. كذلك مثّلت تلك الحواجز الإسمنتية مساحة دعائية للانتخابات، فقد استغلتها أحزاب وكذلك مرشّحون لنشر ملصقات الحملات.
لعلّ أفضل استغلال لتلك الحواجز كان تحويلها إلى لوحات فنية، وقد عمد إلى ذلك فنانون شباب وناشطون رسموا عليها ما يعبّر عن الحياة العراقية وصوراً لمدن معروفة في البلاد. تقول الرسامة فرح مهدي (39 عاماً)، لـ"العربي الجديد"، إنّ "ثمّة ذكريات جميلة لي مع هذه الحواجز. فقد شاركت مع زملاء رسامين في نشاط فني وطني تثقيفي تعليمي جمالي، حوّلنا من خلاله ذلك الإسمنت الأصمّ الكريه إلى لوحات ممتعة لمن ينظر إليها". تضيف: "رسمت لوحات عدّة على مدى أكثر من خمسين متراً، واخترت مواضيع تتعلق بالطفولة، منها ما يتحدث عن التعليم وممارسة الرياضة والنظافة وحبّ الوطن". وتشير فرح إلى أنّها كانت تشعر بسعادة كبيرة وهي ترى كيف تجذب رسوماتها انتباه الناس وإعجابهم حين يمرّون من أمام الحواجز الإسمنتية، لكنّها تؤكّد أنّ "سعادتي اليوم أكبر بكثير، وأنا أشاهد هذه الجدران قد أزيلت مع ما عليها من رسومات. عودة الأمان إلى بلدي أهمّ من أي إنجاز أحققه وأفخر به".
تجدر الإشارة إلى أنّ عراقيين كثيرين عبّروا عن سعادتهم بإزالة "الصبّات" وفتح شوارع مناطقهم، من خلال طقوس شعبية، وعمدت النساء إلى توزيع "ثوابات" بهذه المناسبة. وبنيّة نيل الثواب، راحت ولاء وحراء، وهما توأمان في العاشرة من عمرهما، تسرعان لإيصال "الثوابات" إلى منازل الجيران في حيّ الشالجية ببغداد. و"ثواباتهما" هي عبارة عن أطباق من "الدولمة" العراقية المعروفة التي أعدّتها والدتهما. وتشير الوالدة لـ"العربي الجديد"، إلى أنّها بذلك تفي نذراً يعود إلى أكثر من عشرة أعوام، موضحة "أقسمت أن أوزّع الدولمة على جيراني في حال أزيلت الحواجز الإسمنتية من أمام شارعنا".