العدوان على غزة.. ورجيع الكلام

09 يوليو 2014

آثار العدوان الإسرائيلي على غزة (يوليو/2014/فرانس برس)

+ الخط -
ماذا عسانا أن نضيف، في وصف العدوان الهمجي على قطاع غزة؟ لطالما أفاض كثيرون في وضع النقاط على حروف كل حربٍ، شُنت على الشعب الفلسطيني، أو على ذلك الشريط الساحلي الرقيق القصير الفقير المكتظ، من أرض فلسطين التاريخية. ومهما كتبنا موهمين أنفسنا أننا نقول جديداً في وصف كل حربٍ، أعقبت حرباً على غزة؛ إن صوتاً من أعماقنا سيزجرنا، ويهتف بمقولة الشاعر المخضرم، كعب بن زهير: ما أرانا نقول إلا رجيعاً .. ومُعاداً من قولنا مكروراً.

إن رجيع الكلام من الجانب الفلسطيني والعربي، لا يتغير. يستخدمه أصحابه، شأنهم في ذلك شأن المضطر الذي لا يملك بديلاً لشيء بالٍ، هنداماً كان، أو دراجة هوائية، أو مسواكاً لأسنان المؤمن الورع؛ فيغطي الوقت والمناسبة بكلام الشجب والتوصيف القديم ــ الجديد للعدو؟ بعدئذٍ، لا يتغير شيء في معادلات الواقع، ويظل الفلسطينيون في غزة، في أعقاب انقشاع غبار كل قصفٍ أو كل حرب، عرُضةً في أي وقت لإهدار دمهم، وتدمير ما تبقى من مقدرات حياتهم، ومن مساكنهم ومرافقهم!

لم نعد قادرين على الصمت. لا بد من كلام مختلفٍ، يتجاوز مهابة السلطة وجلال المقاومة، لأن عِلة خَلْق الاثنتين هي حياة الشعب الفلسطيني وحقوقه وكرامته. فلا اختلاف على علة وجود السلطة وحضور المقاومة. سيكون الاختلاف على كيفية وجود كل منهما، لا سيما أن التجارب كلها أثبتت، في مقاربات السلم والمقاومة، أن السلطة التي لا تشبه شعبها لن تفلح في شيء.

والمقاومة التي ليست ذات هدف استراتيجي محدد، يُجيزه المنطق العسكري العلمي، ويولي أهمية كبرى لدراسة احتمالات الربح والخسارة؛ ليست ذات جدوى، وبخاصة عندما لا تُقارن خسائرنا، في الأرواح والمقدرات والعمران، بخسائر العدو. ومثلما أن السلطة، التي ليس لها إظفر ولا مخلب؛ تكون هي نفسها مستباحةً ومخترقةً وذات أنفاس يائسة؛ فإن المقاومة غير ذات الظهير السياسي والكياني الرصين، ستظل محاصرةً ويشتد عليها الخناق.

إن الخطاب السياسي لأية قوة فصائلية، مهما كبرت، لن يجد آذاناً صاغية في واقع الأمم، ما لم يحدد أصحابه هدفهم، ويؤطرون رؤيتهم لقضيتهم، ويُكثرون من الكلام العلمي والسياسي والتاريخي، ويقللون من المحسنات البديعية والطنين. أما أن يقوم أصحاب خطاب المقاومة وينامون على كلام فضفاض، فإن هذا المنحى نفسه يُستغل ضد مشروع الاستقلال الوطني الفلسطيني برمته. إن الأطراف المتعاطفة مع غزة ــ وهي مشكورة ومقدرة ــ تتعاطى بمنطقٍ إغاثي، بمعنى إن العون يكون على الصمود في وجه الحصار والحرمان وتخفيف البؤس، وليس على تحويل الكلام النظري الخطابي عن العنفوان، إلى منهج عمل، وإلى عنفوان لا نملك مقوماته. 

أما السلطة التي كانت تتلعثم كلما وقع عدوان، قبل أن يبدأ إسهامها في رجع الكلام، وفي حديث الإدانة؛ فإنها مطالبةٌ، أولاً، باستعادة لغتها، من حيث كون مؤسسيها ــ أصلاً ــ من حركة التحرر الوطني الفلسطينية. ثم هي مضطرة لمراجعة كل أشكال العلاقة الجبرية مع الاحتلال، أي العلاقة التعاقدية التي فرضتها "أوسلو". اليوم، لا بد من منطق جديد، لا نخافظ فيه من شروط "أوسلو" بما يفيد الاحتلال، إلا بقدر ما يحافظ الاحتلال على ما يفيدنا من "أوسلو" ومحدداتها. وهنا، لن نجد شيئاً يحافظ عليه المحتلون.

عندئذٍ لا بد من اتساع دائرة التشاور على مستوى الطبقة السياسية. فاللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لا تكفي للتشاور المصيري، فهي ليست وازنةً بحكم سمات تشكيلها وفحواها وبنيتها وعوامل أخرى. لقد بات الفلسطينيون في حاجةٍ إلى كيانية سياسية رصينة، لا تتخلى عن المقاوم عندما يضطر للدفاع عن نفسه، ولا يتخلى عنها المقاوم، وهي تحمل خطابه إلى العالم وتشكل ظهيره السياسي.

إن لم تتناغم السياسة والمقاومة في فلسطين، دونما رقاعة من الأولى، ولا مقامرة من الثانية، فستصاب حياة وأمنيات الشعب الفلسطيني بالكارثة تلو الأخرى. حين يفعل الفلسطينيون ذلك، سيحترم العالم منطقهم التحرري، وسيفخر شعبهم بالساسة والمقاومين. فمن حق الشعوب الرازحة تحت نير الاحتلال، أن يكون لها خطابها المقاوم، فيما هي تمارس السياسة، وأن يكون لمقاومتها هدف سياسي، فيما هي تقاوم دفاعاً عن النفس.