يُعتبر اسماعيل كاداريه من أشهر الروائيين في العالم ومن المرشحين المزمنين لجائزة نوبل منذ 1979، إذ أن رواياته صدرت في ملايين النسخ وفي أكثر من ثلاثين لغة من بينها العربية، وإليها ترجمت له أشهر رواياته مثل "جنرال الجيش الميت" و"االحصن" و"قصر الأحلام" و"طبول المطر". ومع أن ما تُرجم له في العربية أكثر مما تُرجم له في العبرية، فإن كاداريه حرص على زيارة اسرائيل عدة مرات بينما لم يزر أية دولة عربية مع أنه وجهت له دعوة لزيارة بيروت بمناسبة صدور الترجمة الثالثة لروايته "الحصار" (الأولى من الألبانية والثانية من الفرنسية والثالثة من الإنكليزية) خلال معرض الكتاب في بيروت 2010.
وسوف نفهم مباشرة إعراضه عن زيارة العالم العربي عندما نعرف أن كاداريه لا يريد لبلده ألبانيا، ولا حتى للبلقان بأكمله، أن ينتمي إلى الشرق الذي يزدريه، بل إلى أوروبا. فكاداريه يجسد النزعة المركزية الأوروبية ويعكسها في أفكاره وكتبه. وهو يعتبر أوروبا "درع الإنسانية"، ويرى أن كل تواصل للألبان مع الشرق بمفهومه الواسع الآسيوي والعثماني والعربي والإسلامي والشيوعي، إنما هو تهديد لهوية الألبان الأوروبية ولأوروبا في آن معاً. وفي كتابه الذي نتوقف عنده هنا ("صباحات مقهى روستان: موتيفات باريسية"، الصادر في أواخر 2014 عن دار نشر "اونوفري" في تيرانا) سوف تكون هذه المركزية الأوروبية محور النقاش.
بالمقارنة مع الكتب السابقة، يتضمّن الكتاب الأخير خلطة من المواضيع الأدبية والفكرية والسياسية التي تتناول العالم الألباني مع امتداداتها الأوروبية والعربية والتركية وسواها. ففي هذا الكتاب يتحدث عن بعض أدباء ألبانيا، ويتناول شخصيات أوروبية مهتمة بالتاريخ الألباني/البلقاني مثل المثقف الفرنسي بيير بوردو غرولت الذي يعتبره "مؤرخاً" بينما يرفض الاعتراف بمؤرخة فرنسية معروفة، ناتالي كلير، لأنها استخدمت في عنوان كتابها الأخير عن تطور الحركة القومية الألبانية تعبير "ولادة شعب بغالبية مسلمة في أوروبا".
وربما يمثل هذا المدخل إلى أهم ما في الكتاب، ألا وهو صورة "الشرق" وعلاقة ألبانيا بهذا "الشرق" المتخيل. فكاداريه يُنتقد في السنوات الأخيرة داخل ألبانيا نفسها لكونه يعبّر بشكل متزايد عن نزعة "المركزية الأوروبية"، وعن تأثره الواضح بالنزعة الاستشراقية التي تختلق "الشرق" الذي تريده ثم تعرّيه خدمة لمآرب سياسية.
ويماهي كاداريه بين العثمانية التي حكمت ألبانيا حوالى 500 سنة، وبين الشيوعية التي حكمت ألبانيا حوالى خمسين سنة، حتى أنه يعتبرهما "التحالف غير المعلن" في القرن العشرين لفصل ألبانيا عن أوروبا. وحتى بعدما انتفض الشعب الألباني على النظام الشيوعي، الذي ينسى كاداريه أنه كان أحد نجومه خلال سنوات 1960- 1990، وانتخب أول رئيس غير شيوعي، صالح بريشا في 1992، لم يعجب كاداريه أن الرئيس المنتخب بديمقراطية أوروبية احترم كون ألبانيا ذات "غالبية مسلمة"، وأعلن عن انضمامها إلى "منظمة المؤتمر الإسلامي"، وهو ما اعتبره كاداريه "خطفاً" لألبانيا نحو الشرق.
ومع أن الاتحاد الأوروبي لم ينزعج مثل كاداريه من ذلك وقرّر في منتصف 2014 فتح الطريق أمام ألبانيا للانضمام إلى الاتحاد، وهو ما اعتبره الروائي ووزير الخارجية الأسبق بسنيك مصطفى عاملاً مساعداً لدور أكبر لألبانيا في العالم الإسلامي.
في هذا الكتاب يتندّر كاداريه على أطروحة دكتوراه نُشرت بالألبانية في تيرانا عام 2009 عن العلاقات الأدبية الألبانية العربية لأن مؤلفها يسوق في الفصل الأول عن العلاقات التاريخية بين الألبان والعرب رواية شعبية منتشرة بين الألبان تقول بالأصل العربي للألبان، وهي الرواية التي سمعها الرحالة العثماني أوليا جلبي خلال جولته في ألبانيا خلال القرن السابع عشر وأضاف إليها من عنده أن المقصود بذلك عشيرة جبلة بن الأيهم الذي رفض حكم الخليفة عمر بن الخطاب في الحادثة المعروفة وهرب مع عشيرته إلى بلاد الروم. ومع أن الباحث الألباني يقول إن هذه الرواية الشعبية بُنيت بعد اعتناق الألبان للإسلام على أسطورة معروفة تروي قدوم قدمس الفينيقي إلى البلقان للبحث عن أخته أوروبا (التي أخذت القارة اسمها منها) وعن بنائه لمدينة طيبة وزواجه هناك وإنجابه لابنه البكر إلير، الذي ينتسب له الأليريون أسلاف الألبان، إلا أن كاداريه يعتبر هذا موضوعاً للتندر ويسخر منه حتى أن يعتبره تمهيداً مبرمجاً لـ"العودة إلى آسيا" أو "تتريك ألبانيا"، دون أن يوضح للقارئ ما العلاقة بين العرب و"تتريك ألبانيا" والعرب أنفسهم كانوا قد واجهوا سياسة "تتريك" تستهدفهم أيضاً!
وبطبيعة الحال تبدو إسرائيل خارج هذا الشرق المتخيل الذي يضم فقط أعداء أوروبا و"ألبانيا الاوروبية" من العثمانيين إلى الشيوعيين، ولذلك يمكن الحديث عن "التشابه" بين الألبان واليهود وعن "التسامح" عند الشعبين وعن "الصداقة" التي تربط بين الشعبين. أما عن موقف ألبانيا السابق من الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية واعتراف تيرانا باستقلال فلسطين المعلن وفتح سفارة لها في العاصمة الألبانية فيصبح جزءاً من تاريخ "ألبانيا الشيوعية"، أو تاريخ ألبانيا حين كانت جزءاً من الشرق بالمعنى الأيديولوجي.
(أكاديمي كوسوفي / سوري)
وسوف نفهم مباشرة إعراضه عن زيارة العالم العربي عندما نعرف أن كاداريه لا يريد لبلده ألبانيا، ولا حتى للبلقان بأكمله، أن ينتمي إلى الشرق الذي يزدريه، بل إلى أوروبا. فكاداريه يجسد النزعة المركزية الأوروبية ويعكسها في أفكاره وكتبه. وهو يعتبر أوروبا "درع الإنسانية"، ويرى أن كل تواصل للألبان مع الشرق بمفهومه الواسع الآسيوي والعثماني والعربي والإسلامي والشيوعي، إنما هو تهديد لهوية الألبان الأوروبية ولأوروبا في آن معاً. وفي كتابه الذي نتوقف عنده هنا ("صباحات مقهى روستان: موتيفات باريسية"، الصادر في أواخر 2014 عن دار نشر "اونوفري" في تيرانا) سوف تكون هذه المركزية الأوروبية محور النقاش.
بالمقارنة مع الكتب السابقة، يتضمّن الكتاب الأخير خلطة من المواضيع الأدبية والفكرية والسياسية التي تتناول العالم الألباني مع امتداداتها الأوروبية والعربية والتركية وسواها. ففي هذا الكتاب يتحدث عن بعض أدباء ألبانيا، ويتناول شخصيات أوروبية مهتمة بالتاريخ الألباني/البلقاني مثل المثقف الفرنسي بيير بوردو غرولت الذي يعتبره "مؤرخاً" بينما يرفض الاعتراف بمؤرخة فرنسية معروفة، ناتالي كلير، لأنها استخدمت في عنوان كتابها الأخير عن تطور الحركة القومية الألبانية تعبير "ولادة شعب بغالبية مسلمة في أوروبا".
وربما يمثل هذا المدخل إلى أهم ما في الكتاب، ألا وهو صورة "الشرق" وعلاقة ألبانيا بهذا "الشرق" المتخيل. فكاداريه يُنتقد في السنوات الأخيرة داخل ألبانيا نفسها لكونه يعبّر بشكل متزايد عن نزعة "المركزية الأوروبية"، وعن تأثره الواضح بالنزعة الاستشراقية التي تختلق "الشرق" الذي تريده ثم تعرّيه خدمة لمآرب سياسية.
ويماهي كاداريه بين العثمانية التي حكمت ألبانيا حوالى 500 سنة، وبين الشيوعية التي حكمت ألبانيا حوالى خمسين سنة، حتى أنه يعتبرهما "التحالف غير المعلن" في القرن العشرين لفصل ألبانيا عن أوروبا. وحتى بعدما انتفض الشعب الألباني على النظام الشيوعي، الذي ينسى كاداريه أنه كان أحد نجومه خلال سنوات 1960- 1990، وانتخب أول رئيس غير شيوعي، صالح بريشا في 1992، لم يعجب كاداريه أن الرئيس المنتخب بديمقراطية أوروبية احترم كون ألبانيا ذات "غالبية مسلمة"، وأعلن عن انضمامها إلى "منظمة المؤتمر الإسلامي"، وهو ما اعتبره كاداريه "خطفاً" لألبانيا نحو الشرق.
ومع أن الاتحاد الأوروبي لم ينزعج مثل كاداريه من ذلك وقرّر في منتصف 2014 فتح الطريق أمام ألبانيا للانضمام إلى الاتحاد، وهو ما اعتبره الروائي ووزير الخارجية الأسبق بسنيك مصطفى عاملاً مساعداً لدور أكبر لألبانيا في العالم الإسلامي.
في هذا الكتاب يتندّر كاداريه على أطروحة دكتوراه نُشرت بالألبانية في تيرانا عام 2009 عن العلاقات الأدبية الألبانية العربية لأن مؤلفها يسوق في الفصل الأول عن العلاقات التاريخية بين الألبان والعرب رواية شعبية منتشرة بين الألبان تقول بالأصل العربي للألبان، وهي الرواية التي سمعها الرحالة العثماني أوليا جلبي خلال جولته في ألبانيا خلال القرن السابع عشر وأضاف إليها من عنده أن المقصود بذلك عشيرة جبلة بن الأيهم الذي رفض حكم الخليفة عمر بن الخطاب في الحادثة المعروفة وهرب مع عشيرته إلى بلاد الروم. ومع أن الباحث الألباني يقول إن هذه الرواية الشعبية بُنيت بعد اعتناق الألبان للإسلام على أسطورة معروفة تروي قدوم قدمس الفينيقي إلى البلقان للبحث عن أخته أوروبا (التي أخذت القارة اسمها منها) وعن بنائه لمدينة طيبة وزواجه هناك وإنجابه لابنه البكر إلير، الذي ينتسب له الأليريون أسلاف الألبان، إلا أن كاداريه يعتبر هذا موضوعاً للتندر ويسخر منه حتى أن يعتبره تمهيداً مبرمجاً لـ"العودة إلى آسيا" أو "تتريك ألبانيا"، دون أن يوضح للقارئ ما العلاقة بين العرب و"تتريك ألبانيا" والعرب أنفسهم كانوا قد واجهوا سياسة "تتريك" تستهدفهم أيضاً!
وبطبيعة الحال تبدو إسرائيل خارج هذا الشرق المتخيل الذي يضم فقط أعداء أوروبا و"ألبانيا الاوروبية" من العثمانيين إلى الشيوعيين، ولذلك يمكن الحديث عن "التشابه" بين الألبان واليهود وعن "التسامح" عند الشعبين وعن "الصداقة" التي تربط بين الشعبين. أما عن موقف ألبانيا السابق من الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية واعتراف تيرانا باستقلال فلسطين المعلن وفتح سفارة لها في العاصمة الألبانية فيصبح جزءاً من تاريخ "ألبانيا الشيوعية"، أو تاريخ ألبانيا حين كانت جزءاً من الشرق بالمعنى الأيديولوجي.
(أكاديمي كوسوفي / سوري)