وشاءت الأقدار أن يذيق العثماني رفيق دربه بنكيران، بطريقة أو بأخرى، من الكأس نفسه الذي تجرعه في العام 2013 عندما تخلى الثاني عن الأول حين كان وزيراً للخارجية لاعتبارات سياسية لم يتم الإفصاح عنها، لكن أُثير حينها حديث عن تعرض الحكومة لضغوط من أجل إزاحة العثماني وتعويضه بالقيادي في حزب الأحرار، صلاح الدين مزوار. وبعد زهاء 3 سنوات ونصف السنة، وتحديداً في مارس/آذار 2017، قرر العاهل المغربي، الملك محمد السادس، إعفاء بنكيران من رئاسة الحكومة بسبب حالة الجمود التي طالت خلال تشكيل الحكومة لخلافات سياسية داخلية بين بنكيران والأمين العام لحزب الأحرار، عزيز أخنوش. ثم جاء تعيين العثماني عوض بنكيران ليقود الحكومة في تجربتها الثانية منذ أحداث الربيع العربي في 2011.
وخلال فترة ترؤس العثماني الحكومةَ، توترت العلاقات الحزبية بين الأخير وبنكيران، إذ كانت الخلافات بادية للعيان من خلال تصريحات منسوبة إلى هذا الطرف أو ذاك، أو من خلال قرارات اتخذها العثماني اعتبرها مراقبون أنها تصفية لتركة سلفه بنكيران. وإذا كان بنكيران لم يُخْف أن علاقته بالعثماني ليست كما كانت من قبل، قبل دخول دهاليز الحكومة وضغوطها وتوتراتها وتحالفاتها السياسية، دون أن ينقص من قيمته رئيساً للحكومة وأميناً عاماً للحزب، فإن العثماني كان حريصاً على أن يكون "أكثر دبلوماسية" من صديقه، فكان يؤكد في كل مناسبة أن "بنكيران لم ينته، وهو باقٍ وله مكانته المهمة داخل هياكل ومؤسسات الحزب، وسيظل قيادة سياسية وزعيماً وطنياً داخل حزب العدالة والتنمية".
التصريحات القوية التي أطلقها بنكيران، بعد صمته لشهور، والذي قال إنه اضطر إلى سلوكه بعد "صدمة الإعفاء من رئاسة الحكومة"، قابلها العثماني بغير قليل من الروية والتريث، لكن أيضاً باتخاذ قرارات بتعيينات أو توجهات سياسية وصفها كثيرون بأنها عبارة عن "تصفية لتركة سلفه بنكيران". ويرى محللون أن أقوى تصفية للتركة قام بها العثماني هي سيره نحو "تفكيك تدريجي" للتحالف الذي يوصف بالاستراتيجي بين حزبي العدالة والتنمية والتقدم والاشتراكية، وتجسد ذلك في تصريحات منسوبة إلى العثماني قلل فيها من أداء وزراء من الحزب اليساري خلال حكومة بنكيران، وتجاوز الأمر إلى الأزمة الراهنة داخل البيت الحكومي.
وتمرّ العلاقة بين الحزبين بتوتر واحتقان غير مسبوقَين، بعد أن اقترح رئيس الحكومة حذف حقيبة وزارية لقيادية في حزب التقدم والاشتراكية، وهو ما أثار سخطاً واضحاً لدى قيادة هذا الأخير، حاول العثماني إخماده من خلال عقد لقاءات لإعادة المياه إلى مجاريها بين الحزبين. ورغم أن حزب التقدم والاشتراكية، وفق محللين متابعين للمشهد السياسي في المغرب، لن يجرؤ على الخروج من الحكومة كما فعل حزب الاستقلال في النسخة الأولى منها، لكنّ شرخاً واضحاً سيستمر في العلاقة بينهما، وقد ينخفض مستوى التحالف إلى مجرد حزب يشارك في الحكومة وينتظر نهاية ولايتها. والملاحظ لقرارات وتصريحات رئيس الحكومة وحتى قياديي حزب العدالة والتنمية، أن ذلك التوهج في العلاقات مع التقدم والاشتراكية الذي كان أيام بنكيران خفت بشكل لافت، بالرغم من نفي العثماني هذه المعطيات وحرصه على أن التحالف الحكومي قوي وفوق أي خلاف عابر. وتصفية التركة التي يروجها أنصار التيار المؤيد لبنكيران تجسدت أيضاً في إبعاد أو إعفاء مسؤولين عرفوا بكونهم مقربين من بنكيران، ومن ذلك مثلاً إبعاد إدريس الأزمي عن رئاسة مؤسسة منتخبي الحزب، وقرار وزيرة التضامن والأسرة، بسيمة الحقاوي، المقربة من العثماني، إعفاء عبد المنعم بالمدني من إدارة مؤسسة التعاون الوطني، ثم إعفاء الوزير لحسن الداودي، مديرةَ صندوق المقاصة، سليمة بناني، التي سبق لبنكيران أن عيّنها في ذلك المنصب.
وفي الضفة المقابلة، يرى مؤيدو تجربة العثماني على رأس الحكومة أن الأمر لا يتعلق أبداً بتصفية تركة بنكيران، أو سحب البساط من تحت قدميه، وإنهاء حقبته زعيماً دفع بالحزب إلى واجهة الشأن السياسي وتدبير الشأن العام، بقدر ما هو تعبير عن تسيير جديد انتهجه العثماني منذ مجيئه إلى قيادة دفة الحكومة. ووفق هذه الجهة، فإن العثماني مقتنع بالمبدأ الذي يقول إن "الأسلوب هو الرجل"، وبأنه لا يرغب في العيش تحت "جلباب بنكيران"، ما يفسر عدداً من قراراته وتوجهاته التي لن تعجب بالضرورة سلفه وأنصاره، لكنها تعمل على الدفع بسفينة الحزب والحكومة إلى الأمام في خضمّ متغيرات وضغوط سياسية لم تنقطع رغم انسحاب بنكيران من مشهد الحكومة والحزب. ويفسر آخرون توجهات العثماني، التي تبدو مختلفة مع بنكيران، بمسألة طبيعة شخصية كل منهما، فبنكيران شخص "مندفع" يمكنه أن يصرّح بما يجول في خاطره دون حساب عواقب ذلك، كما أنه وقف بصلابة أمام شروط أخنوش بدخول حزب الاتحاد الاشتراكي في الحكومة، ما أفضى إلى إعفائه، ليأتي العثماني ويقبل بهذه الشروط. وفي المقابل، يُعرف العثماني بكونه "كتوماً" لا يتحدث كثيراً، خشية وقوعه في "مطبات" خلقت من قبل العديد من المشاكل التواصلية لبنكيران مع جهات نافذة في الدولة، كما أنه حريص على التوافقات الحزبية والسياسية، ويميل أكثر إلى "البراغماتية" السياسية، واضعاً في سبيل ذلك مصلحة الحزب أولاً، وفق مناصري الرجل.