العامية التونسية في معاجمها

03 نوفمبر 2018
ماجد زليلة/ تونس
+ الخط -

بعد أن فازت اللهجات المحلية برتبة "الموضوع العلمي" وتحرّرت من وضعية الازدراء والتهميش التي كانت تعاني منها، أخذ علماءُ اللسان يحلّلونها بوصفها "لغةً" تتوفّر على نظام اشتغالٍ متكاملٍ، وإن ابتعد، قليلاً أو كثيراً، عن نظام الفصحى.

فلقرونٍ طويلة خلت، كانت الدوارج تُلحَق بـ"لحن العامة وأغلاطهم". وبسبب هذا الإلحاق ذي الطبيعة المعيارية، التصق بها لقب "العامية"، الذي يربطها باستخدام طبقات المجتمع الدونية، في مقابل كلام "الخاصّة" ولسانهم الفصيح. ولذلك، نادراً ما حظيت اللهجات باهتمام اللغويين العرب القدماء، إذ طغى عليهم اعتبارُها مجرّد مسخٍ للأصل الخالص، وتشويهٍ لصفائه.

ومع تطوُّر اللسانيات الحديثة وتمكُّن الباحثين العرب من مفاهيمها ومناهجها، تغيّرَت النظرة إلى اللهجات وأُخضِعت للوصف العلمي، فأُنتِجت لها معاجم وصيغَ لها نحوٌ وصرفٌ يختصّان بتراكيبها وأبنيتها. ومن نماذج هذه الأعمال الرصينة التي تسعى إلى وصف الإنتاج اللغوي للمتكلّم، من دون إطلاق أحكام معيارية أو طبقية عليه، نذكر ما أنتجه المعجميّون التونسيّون من دراسات حول دارجتهم.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ أعمالهم سُبقت بأبحاث جيّدة، والحقُّ يقال، أَنجزها مستعربون جابوا سباسب البلاد وبواديها، يَلقفون من أفواه الناس كلماتِهم، ويدوّنون ما يسمعونه منهم، حافظين بذلك ذاكرة ثرية من مفردات الحضارة التونسية في أطوارها المتعاقبة، ومن أبرزهم وليام مارسي (1872 - 1956) وابنه فيليب (1910 - 1984) اللذين تخصّصا في لهجات شمال أفريقيا، ومنها لهجة تكرونة في أرياف الشمال الغربي التونسي وبعض بلدات الجزائر.

وسيراً على آثارهم، وإن بعد زمنٍ، ظهر في بداية القرن الحادي والعشرين معجمان: الأول هو "معجم دارجة نفزاوة" (2010) للمعجمي التونسي إبراهيم بن مراد الذي جمع فيه مئات المفردات السائدة في منطقة الجنوب التونسي، مقدّماً إياه بدراسة مفصّلة عن الجغرافيا الطبيعية والبشرية لهذه المنطقة، وعمل فيه على ردّ الكلمات إلى أصولها بمنهج استقصائي شامل، يربط كلّ كلمة بأصولها المفترضة: الفصيحة أو الأجنبية أو الأمازيغية، لغةِ سكّان المنطقة الأوائل.

وأمّا ثاني هذه النماذج، فهو "مُعجم الفُصحى والعامية في الخطاب الشعبي التونسي من الصراع والمواجهة إلى التكامل والتوحد" (2011) لعبد الجليل الميساوي، الذي جمع فيه مئات الكلم والعبارات الخاصة بتونس في القديم والحديث. يقول في مقدّمته النظرية: "ليس ما نُسمّيه لغةً عاميةً سوى نتائج حقيقة لغوية ثابتة، مضمونها أنّ اللسان البشري، في أية لغة، وفي كل زمان ومكان، هو دائماً يميل إلى الاقتصاد في جهوده الصوتية والعَضلية، عند النطق بالكلمات، فَيعمد إلى تعديل بعض البنى اللفظية أو إلى استبدال الحروف التي في نطقها مشقّة بأخرى أيسرَ منها مخرجاً".

وهكذا، فإنه يدافع عن الأطروحة القائلة إنّ اللهجات المحكية مجرّد تخفيف صوتي للسجل الفصيح، بحيث تتغيّر التركيبة الأكوستيكية للكلمة دون تحويرٍ في معناها، كأنْ تصبح جملة "ما ثَمَّ شيءٌ" النمطية "ما ثمّاش" في العامية. وعلى ذلك تُقاس سائر المفردات والعبارات.

ويقسم الميساوي اللغةَ، كنشاط إنساني، إلى لغة أدب وفن وعمل ومجالها الفصيح الرسمي، وإلى خطاب شفوي، وهو مظهر نشاط الدارجة وحقلها. ولذلك دعا إلى التكامل بينهما، مذكّرًا بأنّ من "أسباب ترسيخ وهم العامية والفصحى أيديولوجية نقاوة العربية المركزية اللغوية وتفوّقها".

ويُضاف إلى هذه المعاجم، ذات الطبيعة الأكاديمية، مجموعات قوائم تتضمّن الكثير من مفردات الدارجة مع مقابلها الفصيح أو حتى الأجنبي، وهي تنتشر على شبكة الإنترنت، مستفيدةً من مرونة تقنياتها وقدرتها التواصلية، وهي في متناول الراغبين سواء في فهم اللهجة التونسية أو مجرّد الحصول على أمثلة منها. وغالباً ما تُورَد تلك القوائم حسب الترتيب الأبجدي، ولكن دون تعريفاتٍ ولا تعليقات أو محاولة استناد إلى مراجع موثوقة، ومن ذلك: "قاموس اللهجة التونسية" و"معجم اللهجة التونسية" وغيرهما كثير.

وهكذا، فإن استمرار العمل على مفردات الدوارج جمعاً وترتيباً، سواءً في إطار الدراسات الأكاديمية أو المساهمات في الشبكة الإلكترونية، تحرّكه دوافع معرفية يحسن الوقوف عليها: فمن جهة أولى، ثمّة رغبة في الدفاع عن الأصول الفصيحة لمفردات الدارجة واعتبار الأخيرة مجرّد تطور صوتي أو مورفولوجي أو دلالي لها. ويهدف هذا الرأي بدوره إلى إرجاع المحكيات إلى حظيرة المدوّنة العريقة والتنصيص على أصالتها. وهو ما يساعد في تقريب الشقّة بين السجلَّين باعتبار الثاني منحدراً من الأول وليس غريباً عنه.

وبذلك تسحب هذه الدراسات التأثيلية (étymologique) البساطَ من مناصري الدارجة، الذين يبالغون في عدّها "لغة مستقلّة"، منقطعةً عن الفصحى، منفصلةً عن تطوّرها، عبر التنبيه إلى الأصول الفصيحة المنسية أو المخفية لكلماتها وردّها إلى حالتها الأولى قبل أن تطرأ عليها تغييرات الصوت وتوسّعات المجاز. وليس أدقّ على ذلك من كلمة "بَرْشا" التي صارت عنواناً للدارجة التونسية، مع أنها تسهيل لكلمة "بَرْشَاء"، وهي صفة مشبّهة بمعنى "أرضٌ كثيرة النَبت مختلفٌ ألوانها"، والكلام لابن منظور القفصي (التونسي) في "لسان العرب".

ومن جهة ثانية، يسمح هذا النوع من الأبحاث بدراسة ظاهرة الاقتراض المعجمي، فالكثير من مفردات الدارجة، كغيرها من ألفاظ الألسن المرجعية، مُقترَضٌ من اللغات المجاورة لها. ولا عجب أن تدمجها في أنظمتها الدلالية، لاسيما إذا كانت المدلولات غائبة من اللغة المُقترِضة، فهي بذلك تسد حاجةً و"تملأ خانة".

وتُمكّن هذه المعاجم، أخيراً، من التنبيه إلى ما في هذه الدوارج من طاقات تعبيرية وإيحائية بسببٍ من علاقاتها بالموروث الشعبي الذي يكتنز تجاربَ الناس ويختزن نظراتهم إلى الكون والحياة والجسد. فشرح المفردات وإيراد ما تتضمّنه من قصص وآثار ثقافية كفيل بإثراء نصوص الفنّ وخِطابات السياسة وصيغ الإشهار، وهي فيه أبلغ، لأنَّ مستخدِمها ينقل معها تاريخها وما ترسّب فيه من التمثّلات.

وهكذا، فإن المكاسب المعرفية التي تحقّقها هذه الدراسات متعدّدة: منها توسيع مجال الموضوع اللغوي بما يشمل ازدواجية الإنتاج الكلامي للمتكلّم بالعربية، فهو بالضرورة ثنائي الكفاءة، بالفصيح ناطقاً في الدوائر الرسمية، وبالمحكية يُؤدّي تواصله اليومي. ولا ندري لماذا يقتصر الدرس الألسني على جانبه الرسمي فقط، ويهمل القسم الغالب من إنتاجه؟

ويتمثّل المكسب الثاني في جَسر الهوة بين السجلَّين وإثراء أحدهما بالآخر عبر الكفّ عن اعتبار المحكيات تدهوراً للفصحى وانحطاطاً لها، وعبر النظر إليها كموضوع علمي، جدير بالبحث والتحليل. وبما أنَّ بعض سهام النقد تُوجّه أحياناً إلى اللهجات المغاربية باعتبارها غير مفهومة لدى المَشارقة، فهل نحتاج قريباً إلى صناعة قواميس مزدوجة بين اللهجات العربية، حتى يتبدّد هذا الالتباس؟

ويُضاف إلى هذه المعاجم، ذات الطبيعة الأكاديمية، مجموعات قوائم تتضمّن الكثير من مفردات الدارجة مع مقابلها الفصيح أو حتى الأجنبي، وهي تنتشر على شبكة الإنترنت، مستفيدةً من مرونة تقنياتها وقدرتها التواصلية، وهي في متناول الراغبين سواء في فهم اللهجة التونسية أو مجرّد الحصول على أمثلة منها. وغالباً ما تُورَد تلك القوائم حسب الترتيب الأبجدي، ولكن دون تعريفاتٍ ولا تعليقات أو محاولة استناد إلى مراجع موثوقة، ومن ذلك: "قاموس اللهجة التونسية" و"معجم اللهجة التونسية" وغيرهما كثير.

دلالات
المساهمون