قوانين الأحوال الشخصية الدينية، إسلامية كانت أو مسيحية، تحكم العرب في بلدانهم. لكنّ الأمور تتعقّد عندما يستقرّ زوجان في بريطانيا مثلاً، ويتوجّب عليهما الالتزام بقوانينها المدنية لإدارة شؤونهما.
هل يمكن إنهاء زواج ديني بواسطة طلاق مدني؟ يبدو السؤال غريباً للوهلة الأولى، لكنّه يُطرَح كثيراً، لا سيّما من قبل عرب يعيشون في بريطانيا وفي دول أخرى في أوروبا والعالم تقول بـالزواج المدني. ففي معظم الدول العربية، ما زالت للدين الكلمة الأخيرة عند البتّ في أمور الزواج والطلاق، في وقت باتت هذه المسألة قضية نقاش بارزة مع ارتفاع نسب الطلاق والحاجة إلى حلول مبسّطة.
وعقبات الطلاق الديني تكثر، لا سيّما عندما تكون المرأة هي الراغبة في تطليق زوجها. فترى نساء كثيرات أنفسهنّ يتوجّهنَ إلى الطلاق المدني كوسيلة للهروب من المؤسسات الدينية التي تنحاز إلى الرجل لدى طوائف كثيرة وتتجاهل رفض الزوجة البقاء في علاقة تدمّرها.
المشكلة الأساس تكمن في أنّ الدول العربية بمعظمها لا تعترف بالزواج المدني، ومنها سورية والأردن والإمارات العربية المتحدة والسعودية وقطر واليمن وليبيا ولبنان وفلسطين. فالزيجات كلها تُسجَّل من قبل السلطات الدينية قبل تدوينها في المؤسسات المدنية. أمّا في مصر، فثمّة اعتراف بالزواج المدني، لكنّ المسألة معقدة للغاية. ومن أجل ذلك، يحتاج الأجانب إلى وثائق من سفارتهم، الأمر الذي يؤدّي إلى مشاكل لدى اللواتي رفض أزواجهنّ تطليقهنّ دينياً. إلى ذلك، تسمح البحرَين والكويت بالزواج المدني للأجانب فقط. يُذكر أنّه في فرنسا على سبيل المثال، تأتي مراسم الزواج الديني ثانوية بالمقارنة مع الزواج المدني، وقد سُمح فقط للمتزوّجين مدنياً بإقامة احتفالات دينية، لينتشر هذا العرف في معظم أنحاء أوروبا.
في السياق، وفي محاولة للاطلاع على وضع لبنان، اتصلت "العربي الجديد" بقسم الأحوال المدنية والشخصية في السفارة اللبنانية في لندن، فأكّد المعنيّون أنّ القانون اللبناني لا يعترف بالطلاق المدني للزواج الديني، كذلك لا يمكن تسجيل زواج مدني في لبنان في حال كان صاحبه ما زال متزوّجاً دينياً. ولفتوا إلى أنّهم يضطرون إلى متابعة حالات مماثلة وأنّ المسألة معقّدة للغاية خصوصاً مع تعدّد الطوائف والمذاهب التي تختلف شروط طلاق كلّ منها. أضافوا أنّه في كلّ الأحوال، ينبغي الحصول على طلاق ديني في حال كان الزواج كذلك، حتى يتمكّن الشخص المعني من تسجيل زواجه الثاني في الدوائر الرسمية في لبنان.
هذه شهاداتهنّ
نرمين، سورية في الثلاثينيات من عمرها، حصلت على طلاق مدني قبل سنوات في بريطانيا، تخبر كيف "يهدّدني زوجي السابق بإيذائي وبمنعي من زيارة بلدي، إن تزوّجت من رجل آخر". وهي كانت قد لجأت إلى الكنيسة الأرثوذكسية، لينصحها الكاهن باتباع قوانين البلاد والتقدّم بطلب طلاق مدني وثمّ العودة إلى الكنيسة للبتّ في قضيّتها بعد حصولها على الطلاق المدني. تقول: "نفّذت ما طلبه منّي الكاهن، واتصلت به بعد حصولي على طلاقي المدني. فنصحني بتوكيل شخص لملاحقة مسألة طلاقي الكنسي في البلد والمنطقة حيث عُقِد الزواج، وطلب مني إرسال كتاب أشرح فيه أسباب طلبي للطلاق ومدّة الهجر التي تأخذها الكنيسة عادة بعين الاعتبار". لكنّ نرمين حتى اليوم، ما زالت تنتظر رداً على كتابها وتأمل أن تتفّهم الكنيسة وضعها. وتشرح أنّ "الهجر دام أكثر من ستّ سنوات وأنّ حياتها الزوجية أنهكتها الخيانات المتكرّرة، الأمر الذي أدّى إلى معاناتها من مشاكل نفسية".
تبدو حالة حنان وهي مصرية في أواخر الثلاثينيات، مختلفة. فهي لجأت بحسب ما تخبر إلى الكنيسة الكاثوليكية للحصول على الطلاق، بعدما رفضت كنيسة الأقباط الموافقة على طلاقها لمدّة تجاوزت خمس سنوات. وتقول: "عانيت الأمرّين وأرهقتني المعاملات، وكلّ ذلك من دون جدوى". لكنّها ما زالت تؤمن بأنّ الكنيسة قادرة على إنصافها ولا داعي للجوء إلى الطلاق المدني، "فأنا أخاف ربّي وأريد الوصول إلى حلّ من دون المسّ بإيماني وقناعاتي الدينية".
من جهتها، ما زالت زينب وهي لبنانية في منتصف الثلاثينيات، مترددة بشأن طلب طلاقها. تقول: "أشعر بعذاب الضمير، لأنّ زوجي يعاملني معاملة حسنة لكنّي عاجزة عن حبّه". وهي كانت قد أرغمت على الزواج به، وأملت أن تتبدّل مشاعرها مع الوقت. لكنّها اليوم أمّ لطفلَين وما زالت بحسب ما تؤكد "تعيسة" في حياتها وتريد الطلاق. تضيف: "لا أجرؤ على اتخاذ هذه الخطوة، على الرغم من أنّني أعيش في بريطانيا بعيدة عن أهلي". وتتابع: "لا أدري من أين أبدأ وإن كان الطلاق المدني هو الحلّ أم أنّه عليّ اللجوء إلى أحد الشيوخ". ولا تخفي زينب أنّها تخاف من رفض طلب طلاقها، لأنّ السبب قد يكون من دون قيمة بنظر القانون أو المحكمة الدينية التي قد ترى أنّ مشاعر الحب تافهة وأنّ زوجها إنسان طيب.
أمّا غادة وهي لبنانية في أوائل الأربعينيات، فتقول إنّ طلاقها دينياً شبه مستحيل لأنّها تزوّجت في الكنيسة المارونية، "لذا فإنّ الطلاق المدني كان بمثابة خشبة الخلاص، حتى أبدأ حياتي من جديد". تطلّقت غادة مدنياً خارج لبنان، وحين أرادت الزواج مجدّداً لجأت إلى السفارة اللبنانية حيث تعرّضت إلى انتقادات لاذعة. فقد قالت لها إحدى الموظّفات: "ألا تخافين ربّك؟ أنت ما زلت متزوّجة في نظر الكنيسة. كيف تجرئين على ارتكاب هذه المعصية"؟ تشير غادة إلى أنّها تجاهلت "الإهانة، لكنّها آلمتني في الصميم"، مضيفة: "حين تنعدم الحلول لدى السلطات الدينية، ولا يتركون لنا أيّ معبر للخلاص، لا بدّ من أن نلجأ إلى السبل المتوفرة حتى لو كانت تتناقض وإيماننا. وثمّة نساء اضطررنَ إلى تبديل مذهبهنّ أو طائفتهنّ في ظلّ غياب الحلول الأخرى".
هذه ردود رجال الدين
في السياق، يقول الأب شفيق أبو زيد وهو كاهن في الكنيسة الكاثوليكية في لندن لـ "العربي الجديد"، إنّ "المرأة التي تتزوّج مدنياً من دون أن تكون قد حصلت على طلاق ديني من زواج كنسي سابق، تُعَدّ زانية بنظر الكنيسة. ولا رأي للكنيسة في الزواج المدني لأنّها لا تعترف به". وإذ يقول إنّ "أساس الزواج المسيحي هو الحبّ العميق بين الطرفين"، يشير إلى "أسباب كثيرة تؤدّي إلى بطلان الزواج بحسب كتاب شروحات مجموعة قوانين الكنائس الشرقية". يضيف أنّ "ثمّة موانع خفية مثل جريمة قتل، أي أن يقتل رجل زوجته، كي يتمكّن من الزواج بامرأة أخرى. فإذا اكتُشف أمره لاحقاً، يُعَدّ الزواج الثاني باطلاً. كذلك الأمر في حال قتلت المرأة زوجها". ويتابع أبو زيد أنّ "الزواج يبطل كذلك في حال تبيّن أنّ الزوجَين من دون عماد، مع العلم أنّه من الممكن لمسلم أو مسلمة الزواج من مسيحية أو مسيحي في الكنيسة، إذ ثمّة طرف كاثوليكي والكنيسة تساوي بين الجنسَين. ويُعَدّ الزواج بحكم الملغى، في حال أتى بين أقارب من الدرجة الثانية، مثل أولاد العم أو العمة وأولاد الخال أو الخالة". ويلفت إلى أنّ "البعض يغضّ النظر أحياناً عن ذلك، لكنّه في حال وصل إلى المحكمة الدينية، فإنّ رجل الدين (كاهناً كان أم مطراناً) يُدان لأنّه وافق على الزواج".
إلى ذلك، يشرح أبو زيد أنّ "الكنيسة تعدّ باطلاً زواج المصلحة الذي يُبنى على أساس الاستفادة من الشريك لثرائه أو لمركزه الاجتماعي أو بهدف الحصول على جواز سفر أوروبي شريطة الطلاق منه بعد فترة. والزواج بهدف الحصول على جواز سفر أوروبي أمر شائع". ويكمل أنّ "قائمة أسباب بطلان الزواج التي تقول بها الكنيسة طويلة، لذا ما علينا سوى البحث والتعمّق فيها قبل اللجوء إلى الطلاق المدني".
من جهته، يقول الأب سمير غلام، وهو كاهن في كاتدرائية مار جريس للروم الأرثوذكس في لندن لـ "العربي الجديد"، إنّ "الكنيسة لا تعترف بالطلاق المدني ولا بالزواج المدني"، مبرّراً أنّ "من شأن ذلك منع انتشار الفوضى في البلاد". يضيف أنّ "الكنيسة تحاول فهم أسباب طلب الطلاق وتنظر فيها بتمعّن لأنّها ترى أنّ الزواج رباط مقدّس لا ينبغي إلغاؤه إن لم تكن هناك ظروف قاهرة". ويؤكّد أنّ "العائلة مؤسسة مباركة، لا ينبغي التفريط بها، ومن الضروري العمل والكفاح في سبيل المحافظة عليها"، لافتاً إلى أنّ "الكنيسة الأرثوذكسية حدّدت شروطاً تسمح فيها بالطلاق وأهمّها الزنا والهجر".
أما الدكتور الشيخ شكري مجولي، فيقول لـ "العربي الجديد" إنّ "المسلم لا يرجع في قضائه إلا إلى قاضٍ مسلم أو من يقوم مقامه، كالمراكز الإسلامية أو المجالس الشرعية التي يحتكم إليها المسلمون في البلاد غير الإسلامية". يضيف أنّه "بما أنّ عقد الزواج جرى في بلد إسلامي، يجب على الزوجة أن ترفع قضيّة في محكمة ذلك البلد، ولا يجوز لها طلب الطلاق من محكمة قرارها في يد قاض غير مسلم". ويشرح مجهولي أنّ "القانون الذي تأسس عليه الزواج ينبغي أن يكون هو القانون الذي ينظر في مفاعيل الزواج وانحلاله. فمن حيث العدالة التشريعية، كلّ قانون من قوانين الزواج يُعَدّ وحدة متكاملة. وعندما يؤسس الزوجان حياتهما الزوجية وفق قانون معيّن، يكونان على علم - أو هكذا يُفترض - بكل الحقوق والواجبات التي تنتج عن هذا القانون، وقد وقع تراضيهما على الزواج بناء على ذلك. بالتالي من غير العادل أن يطبّق عليهما قانون آخر لم يرتضياه عند إجراء عقد الزواج".