الكتابة الأدبية عن الطفولة، كما قد يستخلص مُهْتَمٌّ، صنعة لا يملك أصولها، في الغالب، إلا كاتب دَرِبٌ دان له السرد فجعل من التذكر المُمْعن في الاستذكار سبيلًا إلى استحلاب الذاكرة الحاضنة لجملة من الوقائع المتبقية من أزمنة النسيان. في هذا الاستخلاص، المبني على شعور شخصي ومعرفة نسبية بالعلاقة القائمة، وهي اعتباطية بدون مواربة، بين الطفولة وعملية التذكّر الناجزة، ثمة مستويات تستوجب التحليل: الكتابة الأدبية التي نعني بها المنجز البلاغي، الملفوظ القابل للتحليل والمعبر عن معنى ما كما يُسَكُّ في نصّ. ومعنى هذا أن الكتابة الأدبية هي عمليةُ تكوين أو تشكيل ترتبط بنظام لغوي وذهني يوفران لها، من حيث القراءة والفهم والتأويل، "درجة" تعتبر، من زاوية التداول، قيمة. وأدبية الكتابة، أية كتابة شعرية كانت أم نثرية، هي "صنفها" الذي تواضع القراء على "استهلاكه" حسب مستوياتهم الثقافية العامة، وأذواقهم الأدبية والفنية كذلك.
اقرأ أيضاً: حين تهجرني الكتابة
عندما أكتب عن الطفولة كتابة أدبية ما، فمعنى ذلك أنني أصوغ، انطلاقًا من أسلوبي الأدبي ووعيي الثقافي، واقعة أو جملة من الوقائع المدركة التي تتمتع بالقيمة الاستذكارية، لأنها من الوقائع المختارة التي تسردها اللغة من خلال الذاكرة الحافظة، ولأنها في الوقت نفسه، من الوقائع التي تتصل بالوعي - بوعينا لها- في لحظة الكتابة على وجه التحديد. مما يعني في الواقع أنْ ليست هناك طفولة محدّدة ولا ثابتة ولا نهائية، أو بعبارة أخرى هناك طفولة "سردية" ارتقت إلى وعينا، أي تلك التي نود استذكارها، في لحظة التذكّر التي هي لحظة الكتابة وزمنها في هذه الحالة. من هذه الزاوية فإن النصّ الأدبي عن الطفولة هو النصّ الذي يختاره الكاتب لكي يشكّل به أحد فصول حياته المستذكرة في الزمن، إنتاج صور إذا شئنا. وعندما تتشكّل هذه الطفولة في صيغتها الأدبية الممكنة، فإن نصها الأدبي لا يحيلنا فقط على طفولة مفترضة، بل وكذلك على الزمن الماضي الذي كانته الطفولة المُسْتَذكرة، وأيضًا على زمن تذكّرها الذي غالبًا ما يصوغها في قالب استذكاري لا يمكن تصوّرها إلا به.
الطفولة التي يستذكرها الكاتب الأدبي غالبًا ما يتمثّلها كبدايته الأولى في الحياة المروية. تحيل الطفولة في الغالب على المنطلق، والبدء، والشعور الخاص بالوجود، (البراءة أو الدناءة اللتان تردان بكثرة في خطاب الطفولة)، وقد تأتي كتعبير معنوي عن الانطلاق - بمعنى الحرية- حتى حين تكون فصولها المروية بالغة الشقاء أو العنت. وبمعنى ما لا يمكن تصور الطفولة إلا كذلك، لأنها بقدر ما تحيلنا على نصها المنجز (المكتوب) بقدر ما تحملنا على القول إن كل طفولة، أية طفولة مكتوبة، هي في المحصلة النهائية للكتابة الأدبية: أسلوب سردها، أو فنية روايتها، أو أدبية نصها كما يمكن أن نستخلص.
تتشكّل الطفولة إذن أثناء الكتابة، لا قبلها ولا بعدها، أي لحظة استذكارها بالذات، بل ويمكن القول إن لا وجود للطفولة إلا من خلال هذه الكتابة الاستذكارية. لا نقصد الطفولة المعاشة الفيزيائية في زمن الحياة الشخصية وفي تاريخ الأنا، بل الطفولة الأدبية التي نبني صرحها لوجودنا في الماضي من خلال الكتابة، فتصبح مبنى صوريًا لوجودنا ورمزًا تعبيريًا عن تطورنا في الحاضر، حاضر الكتابة وحاضر زمننا الفيزيائي المعاش وقت الاستذكار والكتابة معًا.
اقرأ أيضاً: في الإرث المسموم
لا يجب أن يغتر كاتب الطفولة الأدبية بطبيعة منجزه حين تتشّكل أمامه صور "الحياة" التي من المفترض أنه عاشها في الماضي، أي عندما كان طفلًا، فهذا الوهم يقود مباشرة إلى الاعتقاد في حقيقة متصوّرة خارج الزمن لا يمكن التحقق منها، لا بحكم المسافة الزمنية المنقضية التي باعدت بينها وبين الاستذكار، فهذا المعطى أيضًا عنصر مهم في التحليل، بل وكذلك لأن "ابتعاث" الطفولة، بحكم انقضائها الزمني من منظور التطور الموضوعي للفرد، لا يتأتى إلا بتحوليها إلى ذكرى شعورية، ولا قيمة لهذا التحويل إلا حين يصبح مبنى حكائيًا نؤرخ به رمزيًا لما عشناه، وفي الحالتين معاً نحن في قلب العملية الأدبية التي حولت الطفولة إلى نصّ. ولا يجب أن يهتم القارئ بأية حقيقة يفترضها كثير من الكتاب لحيواتهم الطفولية، إلا إذا توهموا بالطبع أن الحياة الطفولية ممكنة خارج الكتابة. فما يحدث في هذه الحالة، وعلى ذلك دراسات بينة، أن الكاتب بقدر ما يسعى إلى إثبات "حقيقة" طفولته، بقدر ما يمعن في تشكيل صورها البيانية المفارقة لحياته - أي الماضي- وله- أي الفرد-. فإذا ارتقت في معناها الأدبي وترميزها الدلالي إلى مستوى المحايثة، فإن ذهن القارئ غالبًا ما ينصرف إلى مضاعفتها تلقائيًا على مستوى المخيلة، أي أنه يعيد إنتاجها على نحو مختلف، لعله يتطابق أو يتماهى لا شعوريًا، على نحو ما، مع طفولته الشخصية المُتَصَورة.
الكاتب هو الفاعل القائم بالإنشاء والاستذكار والتكوين أو التشكيل دفعة واحدة، ولا يمكن تصوره في المجال الأدبي أثناء عملية الكتابة الأدبية عن الطفولة إلا في ارتباط معه. غير أن الكاتب وهو يقوم بذلك لا يمكن أن يتحرر مطلقًا من كونه "صاحب رتبة" إذا جاز التعبير: أي أنه، في الأوّل، منتج أفكار ومواقف، وله ارتباطات مؤكدة بالحقل الثقافي بحكم الاختصاص والمجال، كما أن له تصورات معينة ؛ الرفعة، التميّز أو الفرادة، عن نفسه وعن وجوده الاجتماعي، من حيث المنزلة، ككّل، ومثلما للناس عنه كذلك. وارتباطًا مع هذا، فالكاتب أيضًا "صاحب وعي": إن الكتابة الأدبية عن الطفولة دليل وعي مؤكد وإدراك تام بأن كاتبها يقوم بكتابة متن سيرذاتي، أو جزء من سيرة حياته خضوعًا، في الغالب الأعم، لمنطق التذكّر الذي تفرضه القصدية المعلنة من خلال التصريح بالضرورة أو الرغبة ؛ لماذا أكتب عن طفولتي؟. وكذا من خلال عملية أخرى مهمّة يمكن تسميتها بالانتخاب أو الاختيار. ذلك لأن الكتابة عن الطفولة، سواء أوجبتها الضرورة أو كانت استجابة لرغبة، لا يمكن أن تتجاوز مساحة التذكّر نفسه. لأن ما ننساه أو نتناساه، هو ما لا نتذكره بطبيعة الحال. إن الانتخاب أو الاختيار، هو بالذات القدر الكافي الذي لا نكفّ عن سرده، كلّما أسعفنا التذكّر إلى ذلك سبيلًا، أي من خلال تذكره في جميع الأحوال.