الطبخ في المنفى: وسيلة استحضار البيوت البعيدة

03 نوفمبر 2017
الطبخ مساحة للبحث عن الأمان الفردي والجماعي (Getty)
+ الخط -
لطالما أخذ الطعام مساحة أساسيّة في حياة وثقافات البشر. جميعنا يرتبط الطعام الذي يحبّه بتفاصيل البيوت والأماكن التي ننتمي إليها أو نحبّها. وفي الحياة بعيدًا عن البيت، هناك مدن تتيح الروائح والأطعمة التي تقترب من "شعور البيوت"، رغم الابتعاد عنها اختيارًا أو قسرًا. ولربما، يحظى الطعام بأكثر المساحات التي تمنح للنفس حرية التعبير عن حنينها لشيء أو لمكان أو لشخص ما. والطعام المفضّل، سواء بطبخه أو بالبحث عنه، هو بلا شك مساحة إضافيّة للبحث عن فضاءات للأمان الفرديّ والجماعيّ.
من خلال هذا التقرير، التقينا بمجموعة من الشابات والشبان في برلين، من ثقافات وأماكن متنوعة، كل منهم يحبّ الطبخ ويتقنه، ويهتم دائمًا بأن ينتج عن فعل الطبخ الذّاتي، لقاءات جماعيّة مع الأصدقاء والصديقات، كما بالنسبة لبعضهم، يشكّل الطبخ علاقة أساسيّة مع الأماكن التي جاؤوا منها، ويستحضرون أطعمتها بعيدًا عنها.
وسيم حسن، مواليد دمشق في سورية عام 1979، يعيش في برلين منذ 2013. لوسيم رغبة دائمة تجاه الطبخ ودعوة الأصدقاء إلى تذوّق طعامه. في حديث معه، قال: "بما أني تربّيت في الشّام، والمطبخ الشّاميّ مشهور ببعض الأطعمة التي تشتهر بها غالبية مطابخ الشّرق وبلاد الشّام، فإن أكثر ما أحبّ أن أطبخه هو الملوخيّة، الشّاكريّة، المحاشي والمقلوبة". بالنسبة لوسيم، للطعام ذكريات مرتبطة بالعائلة وبفصول السّنة، ويتابع: "على سبيل المثال، هناك أنواع طعام صيفيّة وأخرى شتويّة، وعلى قدر ما نحاول أن نأكل الطعام الغربيّ، ورغم وجود مطابخ غربية لا تقل أهميّة عن المطبخ الشّرقيّ، كالإيطاليّ واليونانيّ، لكننا تربّينا على أصناف طعام لا يمكن أن ننساها، مثل لغة الأمّ. نعيش في بلد أوروبيّ، نتكلم لغته يوميًا، لكن في النهاية ليس من السّهل أن ننسى لغتنا الأمّ، وفي أي مناسبة، أينما التقيت بشخص عربيّ، نتكلم تلقائيًا بلغتنا، والأكل التقليديّ تمامًا كما لغة الأمّ".
كليمونص أفيدو، فرنسيّة من مواليد عام 1989 في مدينة مورناس، ومقيمة في برلين منذ 6 سنوات. تحبّ كليمونص أيضًا طقوس الطبخ، ودعوة الأصدقاء إلى تناول الأطعمة التي تجهّزها والاستماع إلى بعض الموسيقى. في حديث معها عن الطعام وعلاقته ببلدها، قالت: "في فرنسا، الجلوس حول الطاولة هو أيضًا مشاركة مشاعر، قصص شخصيّة ونقاشات، وكل وجبة تحتوي أقل شيء على أربعة أطباق مختلفة. بإمكان أن يمتد طقس وجبة العشاء مع العائلة إلى خمس ساعات. وبالتالي، من المفضّل أن تحبّ الجالسين حول المائدة، أو أن يكون الأكل شهيًا ليجعلك تنسى وجود بعض من لا تحبّهم. (تضحك). تعلّمت الطبخ على يد جدتي، حيث تضمنت "التعاليم" قصصَ مطعم والدتها، والذي ترعرعت فيه جدتي، كما والدتي أيضًا. كان المطعم في منطقة بجنوب فرنسا، فكانت الأطعمة من تلك المنطقة بالإضافة إلى المقادير التي تعلمتها جدتي من شق عائلتها الإسبانيّ. كانت المقادير التي تعلّمتها منها مدموجة بقصصها وقصص من التاريخ. الطبخ بالنسبة لي هو فعل إبداع، ومن الصعب عليّ أن أطبخ طعامًا وفقًا للكتب، عدا عن الحلوى، لكن كل ما أطبخه يأتي من الوحي الذي يصلني من قصص الناس. وبالطبع، هناك مساحة أكبر للمقادير التي تأتي من مناطق فيها شمس".

تشير كليمونص إلى الحضور القوي للأعشاب في المطبخ الجنوب فرنسيّ، والقريب من البحر المتوسط، كما ذكريات طفولتها المرتبطة بنباتات الغابة التي أحاطت بيتهم آنذاك. وتتابع: "لم يمرّ يوم عندي بلا طبخ، ولم يمر يوم للطبخ من غير أن أركض إلى الحديقة وألتقط الأعشاب التي ستضيف روائح خاصّة للأكل. من الصعب الحصول على هذه الأعشاب هنا في برلين، ففي الغالب، حين أذهب لزيارة عائلتي في جنوب فرنسا، أعود من هناك بحقيبة محمّلة بالأعشاب والأجبان والنبيذ".
رافي سين، فلسطينيّ سوريّ من مواليد عام 1987 ومقيم في برلين منذ عام 2014. إلى جانب عمله كموزّع موسيقيّ، لرافي شغف خاص بالطبخ، عرفت ذلك بالأساس من خلال متابعتي لمجموعة "مطبخ غربة" في فيسبوك، وهي مجموعة متخصصة بالمطبخ الشاميّ عمومًا، يشارك أعضاؤها مقادير لأطعمتهم. بدأت علاقة رافي بالطبخ وهو في السادسة من عمره. كان يطبخ مع والدته دائمًا، ويتابع: "بما أنها فنانة تشكيليّة، فقد أحببت الفنّ والإبداع منها. كنا نفكر سويًا في مقادير جديدة للطعام، خاصّة لأنها لم تحبّ كتب الطبخ، فكانت تبتكر أطعمة من كل ما هو متوفّر في المطبخ. وعندما سافرت للالتحاق بالجامعة، بدأت بالطبخ يوميًا، لأني أرى أن الطعام يجب أن يكون مثاليًا وحسب ذوقي، لذلك أهتم بأدق التفاصيل. وكلما أنتهي من الطبخ، أرسل صورة لوالدتي كي نتناقش سويا".

بسبب ظروف عمله، تنقل رافي بين بلاد عديدة. وقد منحه السفر مساحة للابتكار في الطعام، ويضيف: "مثلًا، خلال فترة عملي في الخليج واختلاطي بجنسيات عديدة، خاصّة الهنديّة والأفغانيّة، أعطتني شغف التعرّف على بهارات جديدة وكيفية استخدامها. وفي مصر، تعلّمت فن طبخ السّمك وصنع الفلافل. أمّا ألمانيا، خاصّة برلين، وبسبب عملي كموزّع موسيقيّ، وهي بالنسبة لي تجربة جديدة تشجعني على التجريب الجريء بالمطبخ العربيّ، أصبحت أتعدى الخطوط الحمراء أحيانًا، كما يقولون. مثلًا، عملت فلافل بالفرن بدلًا عن الزيت، أو شاورما بلحم طير السّمان، والمسخن بورق الأرز الصينيّ. لكن عندما أرسلت هذه الصور لوالدتي، غضبت كثيرًا وقالت إنني أشوّه سمعة المطبخ العربيّ. هذا، مع أنها لم تعرف بعد الآن أن أغلب الخضار الذي أطبخه كان بالأصل مرميًا في حاويات القمامة خلف حوانيت الطعام الكبرى، فقط لأن صلاحيتها قاربت على الانتهاء، أو بسبب وجود فائض للمنتجات".

روائح البيت

سمرا سادردّنيلي، صحافيّة من مدينة غابالا في أذربيجان، تعيش بعيدًا عن بلدها منذ 3 سنوات ومقيمة الآن في برلين. تختص سمرا بالمطبخ الشعبيّ الأذربيجانيّ، وهي مرتبطة به عاطفيًا. وتضيف: "أحاول أن أطبخ أطعمة من أذربيجان على الأقل مرتيْن بالأسبوع، من أصناف مختلفة لورق العنب، أرز بيلاف، دوفغا وهي عبارة شوربة لبن وباستا مع لحمة مغطاة باللبن. البلدة التي وُلدت فيها هي صغيرة، اسمها غابالا، ولدينا أصناف متنوعة للأطعمة الشعبيّة، وأنا أقوم بطبخها جميعها، ما عدا الحلوى لأني لم أجد طريقة هنا لصناعة الحلوى الأذربيجانيّة، وهي شهيّة جدًا لكن ليس من السهل صنعها، تحتاج وقتًا كثيرًا كما إلى مقادير وبهارات ومعدات محددة ".

درّست سمرا اللقب الثاني في الصحافة والإعلام في جورجيا، ولأن جورجيا قريبة جغرافيًا من أذربيجان، لم يكن لسمرا مشكلة بأن تجد المواد الأساسيّة لطبخ الأطعمة الأذربيجانيّة، لكن منذ انتقلت إلى برلين، اختلف الأمر عليها قليلًا. وتضيف: "صراحة، فور وصولي إلى برلين كانت صدمتي الثقافيّة الأولى هي الأكل. سافرت كثيرًا، لكني لم أتخيّل بأن هنالك مكان بالعالم من الصعب أن نجد فيه زعفران مثلًا، أو مواد أخرى كما الخضار، حيث ليس لها هنا نفس الطعم الذي نعرفه. وبالتالي، لأوّل مرة، ومنذ إقامتي في برلين، بدأت اشتاق للطعام الأذربيجانيّ ولروائحه وأطعمته كما أعرفها في بلادي. لم أشعر كذلك من قبل، لكن بلا دراما مبالغ بها، هنالك محلات تركيّة في برلين أشتري منها اللحوم والبهارات والخضار. ففي أغلب الحالات، أنجح بطبخ طعام أذربيجاني هنا، على الرغم من صعوبة الحصول على نفس الطعم، لا بل مستحيل".

ترى سمرا بأن الطبخ هو فعل خاص بالنسبة لها، لأنها حين تكون في بلدها، لا يهتم أحد إن كانت طباخة ماهرة أم لا. وتضيف: "لكن هنا، الطبخ هو شيء خاص للأصدقاء وللحبيب وغيرهم. وأحيانًا أحاول أن أحضر معي مقادير للطبخ من أذربيجان، ما لا يمكن أن أجده في برلين. وفي ظلّ واقع حقوق الإنسان والإعلام والاقتصاد في بلادي، أكثر ما يشتاق إليه الناس من أذربيجان والمقيمين خارجها هو الطعام، فنحاول أن نطبخ طعامًا يحمل نفس روائح وأطعمة البيت، على الرغم من ابتعادنا عنه".
المساهمون