الضيفة لا تأكل لحم الدجاج

19 أكتوبر 2015
منمنمة عثمانية من القرن 17 (Getty)
+ الخط -
يجفف "طوني بيرد" يديه بمقدمة بنطاله ساهياً، ثم يصحح الخطأ ويفركهما بفوطة بيضاء متدلية من حزامه. يفعل ذلك عدة مرات بإلحاح غريب، كأنه يعيد شحن كفّيه بطاقة انخفض مستواها عن المعدل المطلوب. عادة اكتسبها، عندما، في جملة الوظائف التي شغل، عمل مساعد طباخ في مدرسة الأب المقدس في مدينة "ميدين هيد". لكن استعادة تفاصيل ذلك ليست مشكورة بعدما أعادت السيدة "بيرد" كتابة التاريخ على هواها وبما يناسب المقام. على أي حال، هناك في المدرسة وقعت عيناه على المعلمة الجذّابة ميراندا، التي ستصبح زوجته، ومع الأيام أماً لولديه سارة وبيتر. 

هفوة "الطباخ" المتكررة، التي تخلط بين الفوطة والبنطلون، لا تمر من دون عدة كلمات تقريع، تقذفها المسز بيرد باتجاهه، تدخل أذنه اليمنى لتخرج من اليسرى بالسرعة عينها. تؤكد بها سيدة البيت والمجتمع، أنها تلاحظ وتراقب، وإن من دون فائدة.

في بيتنا، جلست أتابع أخبار التلفزيون الساخنة بعين، وبالعين الأخرى أرى الصديق والجار طوني منهمكاً في ما هو فيه. أراه يلتقط علب البهارات، يقرّبها من مصدر الضوء، يقرأ أسماء المحتويات وتعليمات الاستعمال. يتأكد من تاريخ صلاحيتها، ثم يعيد التأكد. بعد ذلك يفتح العلب بحذر، يشمّها، ثم يشمّها مرة أخرى، عملاً بمبدأ قسْ مرتين واقطع مرة واحدة. يأخذ كمية معينة من كل منها، ويرشّها على الطعام في حلة الطبيخ، ثم يقلّبه بحرص شديد. بالطبع لا يساعده تكثّف البخار على نظارته الطبية، ولكن ما العمل؟ يتذكر عماً له، مات يحلم بمساحتين للنظارات، أسوة بمساحتي زجاج السيارة، يهزّ رأسه بأسى. وستظهر في الأسواق، عبوة مضغوطة تقوم بالدور المطلوب "بعد فوات الأوان"، يكمل طوني. بل أنا الذي يكمل، فالعم هو عمي وطوني لا يعرفه. يبدو أن كيميائيات الكاري تلخبط عمل المورثات.

اقرأ أيضًا: في مزاج النهر

يعد "المجرم" طنوس، كما في عين "الشرطية" زوجته، التي لا تزال تتمتع بلمحة جمال واضحة، طبقاً خارجاً عن القانون المنزلي. "يرتكب" ذلك بإذن استثنائي لأسباب استثنائية. ولقد تأكدت "ميرا" من أن طوني "الكسول"، قد استعدّ لذلك وراجع "دروسه" في كتاب الطهو، في صفحات تُعنى بتحضير أطباق الدجاج، لا تقربها، النباتية المتطرفة، لأي سبب كان.
بطل الطبخة فروج كامل الأوصاف، عضوي المنشأ، اشتراه البارحة من بقالة "ويتروس" التي تنافس غيرها بجودة ما تبيع وليس بسعره، "فارداً يديه" على غير العادة، كأن لسان حاله يقول "عمره ما حدا يورث"، بالعاً لعابه بانفعال، قافزاً فوق نار الموقد ونار الانتظار، "مندغرًا" بقضه وقضيضه على أكلة حقيقية دسمة، تغازل النظر وتشبع البطن.

سرعان ما بدأت طقوس التنظيف والسلخ والتقطيع، وراء باب المطبخ المغلق بأمر الزوجة، التي انحرف مزاجها طيلة المساء، لتنتهي بوضع "الذبيحة" في وعاء محكم الإغلاق في الثلاجة.

لقد "شيّك عليها" طوني عدة مرات خلال الليل، وقلّبها مع قطع البصل والزيت والخردل. ليس فقط، زيادة في إتقان ما يعدّ على شرف "بيتر"، بل لسبب إضافي أوجه وأخطر. إذ سترافق الابن، صديقته الجديدة التي تزورهم للمرة الأولى.

تكفّلت ميراندا بالمقبلات، وحضّرت مبكراً ما يلزم من مكملات، جميعها لا تقترب بالطبع من أكتاف الحيوانات وأوراكها و"لا تستدعي نتف ريش الطيور الجميلة، وإدخالها جهنم الحمراء من دون ذنب ارتكبته، لتصل إلى موائد النهمين للأكل والمتعة"، كما في جزء من نص طويل، تطلقه ميراندا بمناسبة أو من دون مناسبة، تؤكد رأيها المعروف وتعنّف به "الخائن" طوني، الذي ما انفك بعد كل سنوات العيش المشترك، يفضل اللحم والدسم، لو كان له حق الاختيار. ولقد حفظت زوجتي كلمات ميراندا الشيكسبيرية، تعيدها بصعوبة، ونضحك لها بيسر.
عينٌ على أخبار التلفزيون، تتابع أخبار الوطن، وعين على طوني. أتابع عمليات الطهو، التي يجريها بدقة التجارب العلمية. أشم الأجواء المحمّلة، ألمس التوابل، وأتذوق تفاعل "أشلاء" الفروج الثمين معها. أسمع صوت ميراندا يتعقبه، يحثّه على الالتزام بالمقادير المطبوعة، ويحذره من أي "اجتهاد" أهوج، فهو في البيت، وليس في موقع العمل في المصرف حيث يأمر فيطاع، و"الضيفة غريبة" ولا شكّ في أن انطباعها عن ترتيب المكان، ورأيها في مذاق الطعام، سيؤثران في علاقتها مع بيتر على المدى القريب والبعيد. ولئن كان سلباً، فلن تستطيع العيش مع نتائجه الكارثية، أو فعل شيء يعيد الأمور إلى نصابها. وما يصعب على ميراندا في هذا البحر من الأمور الحساسة، يرسب فيه طوني بامتياز.

استرجعت الأم في ذهنها دخول "الولد الهش" في فترة حداد عصيبة بعد انفصاله عن استيفاني، صديقته السابقة. ثم تذكرت انصرافه بعد عدة أشهر إلى البحث المحموم عن غرام جديد، ووقوعه على "شيء ما"، لا تعرف خيره من شرّه بعد. هي تأمل أنه اختيار موفق، يتمخض عن زواج وأولاد وأحفاد وحفيدات. هذا "عشمها" بمشاعر طوني، غير أنها لا تأمن جانبه. وبناء عليه فستلتزم بتوصية "مارك توين" بالإصغاء إلى ما يتفوه به الزوج من "هلوسات" تكشف حقيقته أثناء النوم، فهي أذكى من أن تهمل نصائح الخبراء.

أقلّب بين قنوات التلفزيون، أبحث عن رأي، أو تعليق مفيد، يلقي ضوءًا على ظلام الحال في بلدي المسكين، الذي تدك جسمه براميل المتفجرات وتقطع روحه سكاكين الموت. أترك طوني إلى ما هو فيه لحين. لا تسهو ميراندا عن أمره وما "يرتكبه" في حضورها من "موبقات" ليس أسوأها ذاك الطبيخ الكريه. تتعاظم رغبتها في القفز من مكانها مثل قطة مدرّبة، لتنتزع تلك الفوطة الرطبة التي تغطي جانبه ومؤخرته بقبح شديد، ولتضع حداً لإهماله المعيب، والخلط بينها وبين مقدمة بنطاله. تفاجئ "الهرة" نفسها، تبقى رابضة مكانها، لا تتحرك. بل تنطلق خمسة أشهر، إلى الأمام.

اقرأ أيضًا: أسئلة غوته بلا إجابات

أخيراً ترى سارة، بعد سنتين من خطوبة طويلة، تتقدّم وسط الكنيسة بفستانها الطويل، الذي شاركت "أم العروس" في كوابيس اختياره، ولعلّها جرّبته على جسمها سراً، أو كما تخطط أن تفعل. وتغوص في ترتيبات العرس، وتغرق في التفاصيل وما يتناسل منها، مما يتسلق كتفيها ويشدّ شعرها ويضغط بألم على جبينها. تشعر بحنق شديد على الذي قال "إن السياسة والزواج لا يحتاج فيهما الإنسان إلى مواهب خاصة". قد تتساهل في أمر السياسة، أما الزواج ومعاناتها الشخصية المزمنة معه، وزواج ابنتها القريب وكل الأمور المتعلقة به، التي لا يحسن أحد غيرها الاهتمام بها، فشيء آخر.

تتقدّم سارة، متكئة على ذراع أب يرشح الفخر من رأسه وأطرافه. يمشي طوني "مفرشخاً" سعيداً "من دون إذن مسبّق" ومن دون أي وازع فني أو أخلاقي. تهمس له، فلا يسمع أو "يطنش"، فتصرخ "انتبه، بحق الإله العزيز إلى ما تفعله. الجميع يراقب تصرفاتك والفيديو يسجلها إلى الأبد". يتسلم العريس "سارته"، رافلة بالبياض الساحر من رأسها إلى قدميها. يأخذ طوني مكانه إلى جانب أم العروس ويصاب فجأة بنوبة بكاء مخجلة. تناوله منديلاً من حقيبتها، ثم تسترجعه بعد لحظة.

تتابع ميراندا استقراء المستقبل، على طريقتها غير المغرقة بالتفاؤل. بعد انتهاء الطعام وتبادل الأنخاب، يشرع طوني الذي استعاد رباطة جأشه، في تلاوة كلمته التي درستها وفحصتها معه عدة مرات. يخرج عن النص المعتمد، يُكثر من النكات المحرجة. "اختصر بحق الإله العزيز". يعلو قربها صوتٌ يطابق صوتها، يعود بها إلى حيث ألقت جسمها آخر مرّة.
تتمخض حنجرة الطباخ عن جواب مضمّخ بالكاري، يتسلل باتجاه "المعلمة" باسترخاء مريب، فيتعاظم ذنبه. "نعم يا عزيزتي أتناديني؟ كل شيء يجري حسب الخطة المرسومة بمنتهى الانتظام والاستقرار،لا تقلقي ولا يتسربنّ الشك إلى قلبك الرقيق".

اقرأ أيضًا: صديقها السوري

هاتفني طوني معتذراً عن لقائنا في "مدرسة السبت" التي لا علاقة لها بأي مدرسة ليلية أو نهارية، لكن هكذا اعتدنا الإشارة إليها. مساء السبت هو موعدنا الأسبوعي في مشرب "رأس الملكة"، نرتاده محرومين أو متحررين من جنّة الزوجات. سيكون "رفيق الصف" محجوزاً لواجبات أسرية لا تقبل "التزويغ". نسي أنه أخبرني بكل ذلك قبلاً.

وسيأتي سبت آخر وستضمنا قاعة "المدرسة" الخالية من عصا المدرس واللوح الأسود، وستمتد الحصة اللا دراسية لأكثر من ساعتين حميميتين. سيسألني كعادته عن الحال في بلدي وعن أهلي بكلماته القصيرة المعهودة "أمن جديد؟". وسأسمع منه قصة الكاري العجيب، وأتذوق حرقته وحرارته مع كل رشفة من كأس جعة باردة. وسيشرح طوني بالتفصيل المثير، كيف استعدّوا وكيف استقبلوا الضيفيْن. وسيصف كيف جلسوا وماذا شربوا. وسأستفهم بشكل خاص كيف تفاعلت "الزبونة" مع الطبخة المتقنة التي أُعدّت على شرفها، تقريباً.

"لن تصدق، ولكن هذا ما حصل: لقد اعتذرت الفتاة بمنتهى الإصرار عن تتناول أي شيء له علاقة من قريب أو بعيد بما يسبح أو يدبّ أو يطير". يتحرك لساني، يستفهم ويجيب في وقت واحد "هل هي نباتية متطرفة وأنتم لا تعلمون؟ أكاد ألوم بيتر الذي لم يخبركم مسبقاً بهذا الأمر. أم لعل الكنّة المراوغة كانت تحاول مبكرة كسب رضا حماتها؟".

"لا، هي بالتأكيد ليست نباتية. ولعلها لم تكتشف "هوية" ميراندا الغذائية إلا في نهاية السهرة. غير أنها كانت تفي بعهد قطعته على نفسها، في أن تمتنع شهراً كاملاً عن أكل اللحم والدجاج والسمك، بسبب ما تراه يومياً في التلفزيون من دمار وجوع في بلدكم الكريم. ولقد انتهى الأمر إلى أن ميراندا وأليسون تكفّلتا بالمقبلات و"الزرزوات". و"التبشنا" أنا وبيتر بطبق الدجاج اللذيذ، Not bad؟".

تابع متأثراً بروعة ما حصل، متجاهلاً، على غير عادته، حساسية الموقف الذي فرض نفسه فجأة. ثم أضاف مسترسلاً "هل تصدق، أوشكت ميراندا أكثر من مرة، أن تمد يدها إلى الكاري، في جو من الرضا، والانفعال الواضحين. شيء آخر، لقد دعتها إلى عرس ابنتنا سارة في الصيف المقبل".

دلالات
المساهمون