الصراع على جِمنة التونسية: تنمية محلية مستقلة أم تمرُّد؟

13 أكتوبر 2016
فعّل المزاد اقتصاد سكان جمنة (العربي الجديد)
+ الخط -
كانت منطقة جمنة الصحراوية في محافظة قبلي، جنوبي تونس، على موعد يوم الأحد، مع مزاد علني، أدى إلى بيع صابة تمور "واحة المعمر" أو "هنشير ستيل"، في أرض تعود ملكيتها للدولة التونسية، بمبلغ يناهز الـ900 ألف دولار. وقد أشرفت جمعية "واحات جمنة" على تأهيل "واحة المعمر" واستصلاحها منذ عام 2012 من دون تفويض قانوني. وبين المبلغ الذي بيع به المنتوج من التمور على رؤوس النخيل (قبل اكتمال نموها وجمعها) هذه السنة، وبين ما كانت تدرّه سابقاً (قرابة ستة آلاف دولار) فارق كبير، كذلك ظهر الفارق كبيراً بين عدد العمال سابقاً، وهم خمسة فقط، وبين طاقة الواحة التشغيلية المقدرة حالياً بـ260 عاملاً.

يكشف الأمر عن انقسام ردود أفعال التونسيين، شعباً وطبقة سياسية، بين التهليل والتشجيع من جهة، في مقابل اعتبار ما حصل بمثابة الإنذار بسقوط مفهوم القطاع العام من جهة ثانية. ولأن التجربة قد تجهض بسبب قدرة الدولة على استرداد الأرض وإيقاف المزاد العلني، فإن حملات المساندة كانت منقطعة النظير، وتصدّرتها شخصيات سياسية وحقوقية ومنظمات وجمعيات ونشطاء وإعلاميون، توجهوا منذ يوم السبت، لتقديم الدعم لجمنة وأهاليها، ورفض وأد تجربة التنمية المحلية، معتبرين أن المنطقة قدّمت "درساً في المقاومة" ودرساً في الحكم المحلي الرشيد، وتكاد تكون "الحدث الوحيد الذي يعبر حقيقة عن ثورة الحرية والكرامة" على ذمة تعليقات كثيرين تحمسوا إلى جانب سكان المنطقة المهملة تاريخياً. وقد شهدت جمنة تظاهرات ثقافية وفنية، احتفالاً بنجاح المزاد العلني، لا سيما بعد تخوّف المشترين من المشاركة في العملية، التي سبق أن مُنعت رسمياً بموجب قرار قضائي.

ولا يأبه أبناء المنطقة كثيراً بالتفسيرات ورشقهم بالتهم، لكونهم متمسكين بالفرضية القائلة إن الأرض ملكهم لسببين: الأول، عقاري مثبت بأحكام سابقة منذ الحقبة الاستعمارية. والسبب الثاني أن الأرض لحارثها ومنتجها، الذي تمكن من تحويلها من واحة بور مهجورة، إلى "منجم ذهب" على حد توصيفهم. كما لا يدّعي أهالي جمنة تحويلها إلى "كولخوزات" مستقلة (تعاونية زراعية) على الطريقة السوفييتية، بل يصرّون على اعتبارها "تمظهراً لدستور 2014"، الذي منح السيادة للشعب وخصص مادة هامة منه للحديث عن الحكم المحلي التشاركي وفك المركزية.

من جهته، يفسّر رئيس جمعية "حماية واحات جمنة" الطاهر الطاهري لـ"العربي الجديد" التعقيد القانوني الحاصل، بالعودة إلى حقبة الاستعمار في العشرينات من القرن الماضي، حين وضع المستعمر الفرنسي يده على الواحة وسجن أهالي المنطقة، الذين ثاروا على افتكاك أرضهم التي توارثوها جيلاً بعد جيل، وإثر الاستقلال عرضت الدولة الفتية على سكان جمنة شراء الأرض لاستعادتها، وتم دفع نصف ثمنها الذي وظف في بناء مرافق في محافظات أخرى لا في المنطقة. غير أن الدولة عادت لتبيع الأرض مجدداً لشركة "ستيل" التي افتكت الأرض وأجبرت السلطات المحلية على بيع الأراضي المحيطة بالواحة لفائدتها. ولم تتوقف "المظلمة" كما يصفها الطاهري لـ"العربي الجديد" بعد تسليم نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي الواحة لفاسدين بثمن رمزي، على الرغم من حصول الأهالي على حكم قضائي يثبت ملكيتهم للأرض.


بيد أن ثورة عام 2011 مثلت نقطة استرجاع الواحة بمباركة من الحكومات المتعاقبة وفق ما يؤكده الطاهري، كما انطلقت الأشغال لتهيئتها واستصلاحها حتى تتوصل إلى در 750 ألف دولار في العام الماضي. ويضيف الطاهري أن "معظم الأموال تمّ توظيفها للتنمية والتشغيل، فتمّ إحداث ملعب معشب وقاعة رياضة مغطاة للمدينة التي لم تعرف الترفيه قبلاً، وتأمين سيارتي إسعاف للمستشفيات. كما ساهمت في تمويل البلدية وتعبيد الطرقات وتدعيم المدارس والاعتناء بمرضى التوحُّد والقاصرين ذهنياً".

ويذكر الطاهري بتأثر بالغ، لحظة الإعلان عن بيع المحصول في المزاد العلني وسط تهليل المئات من المساندين الذين جاؤوا من العاصمة قاطعين مئات الكيلومترات، ومن الجهات المحاذية والشمالية على حد سواء، فيما حرص جميع أبناء المنطقة أيضاً على التوافد بكثافة. وفي الوقت عينه، ندّدت قيادات الائتلاف الحاكم مطالبة بإعادة هيبة الدولة عبر استعمال القوة إن لزم الأمر، لأن الأمر يشرّع لخروج المواطنين عن الدولة وانفصالهم، لإدارة شؤونهم بأنفسهم تحت شعار "التجربة الناجحة والتنمية المزدهرة".

في المقابل، يؤكد طرفا النزاع، الدولة وجمعية "واحات جمنة" أن "الحوار هو الأمثل"، ويكشف الطاهري في هذا الصدد، أن "جلسة سابقة للمزاد التأمت بمقر المحافظة وكادت أن تكون مثمرة لولا أن الحل لم يلائم الأهالي"، مشدداً أيضاً على أن "مستشاراً من فريق رئيس الحكومة اتصل أخيراً بالجمعية، ليعبّر عن إعجاب الشاهد بنتائج التجربة في جمنة، وأن حلاً حاسماً يلوح في الأفق".

ولا يختلف في ذلك كاتب الدولة لأملاك الدولة والشؤون العقارية، مبروك كورشيد الذي ينوّه في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الحلّ الأمني غير وارد بالمرة، بل سيتم فض النزاع بالحوار"، مضيفاً أن "الحكومة ستتلقى المقترحات جميعها وتدرسها حتى تتوصل إلى حل توافقي يرضي الجميع".

ورد كورشيد الاتهامات التي وجهت إليه من قبل طيف من المعارضة بالمسارعة نحو وأد التجربة في أول يوم عمل له، وأن علمه بالملف باعتباره ابن المنطقة يجعله أسير تأويلات ممكنة، لافتاً إلى أن "الأمر يتعلق بحماية ممتلكات الدولة ومن بينها الواحة المذكورة وأنه لا يمكن غض الطرف عن المخالفات أينما كانت حتى وإن كانت في مسقط رأسه". ومع استنكاره توجيه اتهامات إليه بالانحياز ومحاربة التجربة الوليدة، إلا أنه يعتبر أن النواب الذين يعتبرون استرداد الدولة لأرض على ملكها أمراً غير مقبول، وكان عليهم تغيير القوانين والسماح للمواطنين بوضع اليد على ممتلكات الدولة، ولن تمنعه السلطة التنفيذية في هذه الحالة، لأن الحكومة ملتزمة بتطبيق القانون. ويدعو كورشيد أيضاً في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى "عدم تهويل النزاع وتغذيته بالتصريحات، وإظهاره في شكل مؤشرات سقوط الدولة أو انهيارها، فالأمر لا يتعدى أن يكون نزاعاً عقارياً على أرض في أقصى جنوب البلاد يسعى الأهالي لاستغلالها، وسيتم تسويته بالحوار".

دلالات
المساهمون