الصحافة تواجه الدبابة في بريطانيا

07 ديسمبر 2019
+ الخط -
لم تتوقف عاصفة ردود الأفعال في الأوساط السياسية والإعلامية البريطانية بعد أسبوعين من نشر تحقيق استقصائي يتهم الجيش البريطاني بارتكاب جرائم حرب في العراق. قام بالتحقيق فريق مشترك من "بي بي سي" وصحيفة التايمز البريطانية، واستغرق عامين، وانتهى بإنتاجه في صورة فيلم أذاعته "بي بي سي بانوراما". وينطلق التحقيق من عام 2017، حين أغلق الجيش البريطاني التحقيقات الرسمية ضمن "فريق الاتهامات التاريخية في العراق" الذي حقق في نحو ألف حالة انتهاك وقتل، وكذلك "عملية نورث مور" التي حققت في نحو 52 حالة في أفغانستان، وقد بدأت الأولى عام 2010 والثانية عام 2014. تحجّجت الحكومة البريطانية بواقعة كشف دفع محامي حقوق الإنسان البريطاني، فيل شاينر، أموالا لوكلاء في العراق، نظير البحث عن ضحايا يوكلونه محامياً لهم لتقديم الأوراق للجنة الاتهامات التاريخية. 
أجرى الصحافيون مقابلات مع نحو 80 جندياً بريطانياً بالإضافة إلى 11 محققاً في الفرق التي تم وقف عملها، أكّدوا جميعاً وجود أدلة موثوقة على ارتكاب القوات البريطانية ما يرقى إلى جرائم حرب. أحد أبرز الحالات كانت مقتل الشرطي العراقي، رائد الموسوي، على يد جندي بريطاني في البصرة عام 2003، وانتهى تحقيق الجيش خلال 24 ساعة فقط بأن إطلاق النار كان قانونيا! قالت المحكمة الجنائية الدولية إنها تنظر بجدّية إلى ما توصل إليه التحقيق الصحافي، وهو ما قد يجعلها الحالة الأولى في تاريخ المحكمة منذ إنشائها، لو قرّرت فتح هذا التحقيق بوقائع تورّط بها عسكريون بريطانيون.
ليست هذه هي المراجعة العامة الأولى في بريطانيا لحروبها الأخيرة في الشرق الأوسط. في عام 2016، نُشر تقرير شيلكوت الشهير، والذي لم يكتف بتوجيه انتقاداتٍ سياسيةٍ حادّة لمبدأ قرار توني بلير (رئيس الوزراء) دخول الحرب، معتمداً على "معلوماتٍ استخباراتيةٍ خاطئة" ومن دون استنفاد الآليات السلمية، لكنه أيضاً وجّه انتقادات تقنية عسكرية بحتة، مثل معاناة القوات البريطانية من نقص المركبات المدرعة، وضعف التنسيق بين الأفرع العسكرية المختلفة.
كتب باتريك كوكبرن في مقاله في صحيفة الإندبندت البريطانية إن التحقيق يؤكد فشل بريطانيا الذريع في الحربين. ونقل عن نقيبٍ في المخابرات العسكرية خدم في العراق قوله "حاولت، من دون نجاح، أن أشرح لرؤسائي إنه كان لنا حلفاء محليون في الملايو وأيرلندا الشمالية، وذلك مختلفٌ عن وضعنا في البصرة، حيث نحن وحدنا من دون حلفاء".
لافتٌ هنا أنه، على الرغم من التشابه في محاولة المؤسسات العسكرية والأمنية حماية منتسبيها في كل زمان ومكان، السياق والخطاب مختلفان تماماً. يمكننا تخيّل ما كان سيتلقاه الصحافيون من أذى جسدي ومعنوي، لو نُشرت تحقيقات ومقالات كهذه عن ممارسات جيش دولة عربية ضد شعبه، فضلاً عن أن يكون ضد شعبٍ غريبٍ في بلدٍ غريب بعيد، أو عن مشكلاتٍ في الكفاءة العسكرية البحتة للقوات.
كلمة السر الأولى هي آليات الحكم الديمقراطي التي سمحت بتداول السلطة وسقوط بلير، ولاحقا تولّي غوردن براون الذي قرّر تشكيل لجنة تشيلكوت عام 2009.
جانب آخر هو بالطبع الصحافة المستقلة. ولا يتوقف الأمر فقط عند حرية الصحافة سياسياً، فلن يُسجن صحافي شارك في هذا التحقيق، بل يمتد الأمر إلى جوانب تقنية بحتة، فلا مشكلة في أن يستغرق فيلم واحد عامين، لا أحد يطالب بسرعة الإنجاز على حساب الجودة، بغرض اللحاق بهدف ما للمكايدة السياسية، أو بغرض تعويض الكلفة المالية. وهنا تجدر الإشارة إلى نماذج متكرّرة أوروبيا في بريطانيا والدنمارك وغيرها بتمويل الإعلام بضرائب مباشرة أو غير مباشرة، نظير إشراف مستقل عن الحكومات.
ليست الديمقراطية حلاً سحرياً لكل المشكلات، ولا بلاد الغرب جنة تمرح فيها الملائكة، ولكن الفارق الرئيسي هو في إتاحة الأدوات والمؤسسات، وبالتالي يمكن دائما وجود تيارات مختلفة تتدافع، يغلب كل منها حيناً، في إطارٍ من السلمية لا الدماء، وهو ما تستحقه بلادنا في يوم نحسبُه غير بعيدٍ بينما نشهد اليوم شعارات الجيل العراقي الشاب في ساحات التحرير الجديدة.