الصحافة الورقية تحتضر وتموت في الأردن

الصحافة الورقية تحتضر وتموت في الأردن

21 ابريل 2015

صحف أردنية (Getty)

+ الخط -

شقت جريدة الرأي الأردنية، والتي تعتبر ذراع الحكومات وقوة ضاربة لها طوال العقود الماضية، عصا الطاعة للمرة الثانية خلال عامين، وقررت، قبل أيام، التوقف عن نشر أخبار حكومة رئيس الوزراء عبد الله النسور، بل وأكثر من ذلك، توجيه انتقادات لاذعة لها. وتجيء "انتفاضة" الرأي الثالثة منذ بدء الربيع العربي، احتجاجاً على الأزمة المالية التي تمر بها الصحافة الورقية التي بدأت بالانهيار والإفلاس. وكانت صحيفة العرب اليوم اليومية، قد أغلقت، قبل نحو عامين، واستغنت عن معظم العاملين فيها من صحافيين وفنيين وإداريين، ولم يشفع لهم كل الاحتجاجات والتظاهرات، وعادت الجريدة إلى الصدور بعد أشهر من التوقف بكادر قليل جداً، وعلى الرغم من ذلك تواجه صعوبات مالية. وتكرر المشهد مع "الدستور"، أقدم صحيفة أردنية، والتي تمتلك مؤسسة الضمان الاجتماعي ما يزيد على 30% من أسهمها، فهي منذ أكثر من ثلاثة أشهر لم تدفع رواتب موظفيها، وباءت كل المحاولات بإيجاد حلول ومخرج لأزمتها بالفشل.

ويطالب الصحافيون الأردنيون الحكومة بالتحرك لإنقاذ الصحافة الورقية التي كانت توظفها في معاركها، وتتخلى عنها حالياً في ضائقتها الحادة الراهنة، ويذكّرون الحكومة بأن الإعلام ليس "سوبر ماركت" يغلق، بل منابر للتنوير وقنوات تضمن حق المجتمع في المعرفة. ويشيرون إلى أن الدولة الديمقراطية يحدث أن تدعم وسائل الإعلام، وتعتبرها "خدمة عامة" Public service، وتمولها من الموازنة العاملة للدولة.

وتبدي الحكومة الأردنية الواقعة تحت الضغط استعداداً للتجاوب مع الحلول، مع التأكيد على شرط أن لا يتعارض ذلك مع القانون. والمطلوب لإنقاذ "الدستور"، مثلاً أن تضخ مؤسسة "الضمان الاجتماعي"، باعتبارها من أكبر المساهمين، أموالاً نقدية حتى تتمكن الجريدة من سداد الرواتب فقط، وفي هذا نقل عن إدارة هذه المؤسسة الحكومية قولها "لا نستطيع أن نقدم الأموال ليتم إنفاقها على الرواتب، من دون خطة واضحة لتطوير الإيرادات، بما يضمن ألا تفلس الجريدة بعد أشهر أو عام".

وفي خضم هذا الجدل المحتدم، يدخل مجلس النواب (البرلمان) الأردني، عبر لجنة التوجيه الوطني فيه، وهي التي تتابع ما يتعلق بالإعلام، لتقدم خطة عرضت تحت قبة البرلمان، ونالت قسطاً واسعاً من النقاش، تركز على حزمة إجراءات، أبرزها مطالبة الحكومة بتجميد الضرائب على الإعلان ومدخلات الإنتاج، وكذلك رفع سعر الإعلان الحكومي، حيث تشتري الدولة الإعلان بسعر أقل من كلفته تجارياً. ولكن، أسئلة شائكة تـُطرح، منها: هل تنقذ المبادرة البرلمانية الصحافة الورقية في الأردن من الاندثار؟ هل توفير دعم مالي فترة زمنية محدودة، وبعض الإعفاءات الضريبية والجمركية، تحل المشكلة من جذورها، أم أن القضية أعمق وتتجاوز ذلك؟

هناك تابوهات لا يُقترب منها، في أثناء البحث عن الحلول، أبرزها استقلالية الإعلام وابتعاده عن مظلة الحكومة والأجهزة الأمنية. وتحدي المهنية والبحث عن مسارات لمواجهة التطورات التي اجتاحت الإعلام، بعد ثورة الاتصالات. وإعادة هيكلة هذه المؤسسات التي تضم صحافيين كثيرين، بعضهم لا يعمل ولم يكتب حرفاً منذ سنوات، وآخرين من المحاسيب والمنتفعين الذين أتخمت بهم هذه المؤسسات، إرضاء لمراكز قوى بحثت دائماً عن ضرورة أن يكون لها أتباع ومريدون في المؤسسات الإعلامية؟

وجاء لافتاً جداً أن جريدة الرأي التي ظلت حديقة خلفية لكل مراكز القوى في الدولة، بدءا من الديوان الملكي، مروراً بالمخابرات والحكومة، تعلن اليوم تمردها على الحكومة، وتمتنع عن نشر أخبارها. هو تصرف يعتبر غريباً، فكيف تفعل جريدة الدولة ذلك، هل هي مقايضة دفاعاً عن المصالح، تنتهي بمجرد الاستجابة لمطالب الصحافيين، مهما كان مسماها، حقوقاً مكتسبة لا يريدون التفريط بها، أم ابتزازاً واستقواءً، ويعود شهر العسل والوئام بين الطرفين، أم أن الخلاف ومعركة كسر العظم أفلتت من عقالها؟ وتطرح هذه الأسئلة، وفي البال أن المعارك السابقة التي خاضتها جريدة الرأي كشفت حقيقة أساسية، هي أن القضية، بالنسبة لكثيرين، ليست معركة للدفاع عن استقلالية الجريدة، بل معركة الدفاع عن "لقمة الخبز"، فإن انصاعت الحكومة للقضايا المطلبية ألقت الحرب أوزارها؟

لم تجد الأسئلة الشائكة إجابات، فالمقايضات التي مرت في السابق من الصعب أن تمر اليوم، فالجراحات التجميلية لا تكفي، بعد أن تفاقمت أزمة الصحافة الورقية الأردنية، فسوق الإعلان يتراجع وشراء الصحف والاشتراكات في تدهور، والإعلام الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي تجتاح المجتمع، في ظل استنكاف الشباب عن قراءة الصحافة المكتوبة. والناس تصنع إعلامها على مقاسها، فما حاجتهم لصحف، في الغالب، تردد ما تقوله السلطة وتطبل له؟

إذن، لا مفر من مواجهة الحقيقة، وعلى الأغلب، ستضطر الحكومة الأردنية لمواجهة أوسع، ولن ترفع الراية البيضاء، فهي لا تملك فائضاً من الأموال، لتدفعه في ظل أزمة اقتصادية مستفحلة. ويرى مراقبون أن الدولة، وفي مقدمتها الديوان الملكي، بدأ يلجأ إلى وسائل التواصل الاجتماعي لتمرير رسائله، ويكفي أن تطلع على نشاط موقع الديوان الملكي الذي يحقق نجاحاً مضطرداً، وعلى مواقع "فيسبوك" و"تويتر" و"انستغرام" للملكة رانيا التي تعتبر من أكثر الشخصيات المتابعة عالمياً على وسائل التواصل الاجتماعي، لتصل لهذه الحقيقة؟

ويبدو أن كثيرين لم يستوعبوا بعد دروس الحقائق التي تغيرت على الأرض، فالحكومة والأجهزة الأمنية لم تعد تتكئ على الصحافة الورقية، مثلما كان الحال في السابق، وهو الوضع نفسه للتلفزيون والإذاعة الحكوميين، فهذه الوسائل كانت درراً نفيسة، ولاعباً وحيداً في الساحة، حين لم يكن غيرها، وكانت مدللة، ولم يكن ممكناً الاستغناء عنها، وكانت وسائل الإعلام تأتمر بأمر الحكومة، ترغيباً أو زجراً. وكان المخبرون، غالباً، هم من يصنعون أخبارنا، وكانت الحكومات في الدول العربية تضع حراسات مشددة ودبابات عند التلفزيون والإذاعة، حتى لا يحتلها أحد، ويعلن البيان رقم واحد للانقلاب. والآن، لا أحد يلتفت لذلك ويأبه له، وصار الجميع متاحاً له أن يكون مالكاً لوسائل الإعلام، ولاعباً فيها. ويبدو أن هذه التغييرات لم تُقرأ جيداً في الأردن، فزمن التعليمات الهاتفية، والأوامر اللحظية، لم تعد كما كانت، وإن تراجعت وخـًفـَّـتْ حدتها ومظاهرها، وصارت إدارات التحرير تلعب هذا الدور بالوكالة.

انحرف صراع البقاء للصحافة الورقية عن مساره، فالدعوة إلى الاستقلالية المطلقة عن السلطة التنفيذية صارت، الآن، تجديفاً خارج الزمن، فالمطلوب ممن يعصف بمفاهيم الحرية أن يكون زورق النجاة، ولم ينظر أحد خارج الصندوق، كيف يجترحون حلولا أخرى؟

في أحدث استطلاع أجراه مركز حماية وحرية الصحافيين عن حالة الحريات والمهنية في الإعلام، كان هناك سؤال عن الأكثر تأثيراً في الصحافة الأردنية، ولم يكن مفاجئاً أن تتصدر الحكومة والمخابرات والديوان الملكي قائمة الأكثر سيطرة وتأثيراً، لكن الغريب والمعيب أن الصحافيين يرون أن الجمهور، والذي من أجله تصدر وسائل الإعلام، لا يحظى بتأثير أكثر من 3%. وفي السياق نفسه، طوال أكثر من عشر سنوات على استطلاع الحريات الذي ينشره مركز حماية وحرية الصحافيين، لم تتراجع نسبة من يرون أن الحكومة تتدخل بوسائل الإعلام عن 80%، وكانت في كل عام تتصاعد. وبالتوازي مع ذلك، كانت أرقام الرقابة الذاتية عند الصحافيين أيضاً في تصاعد، حتى وصلت إلى نحو 95% في إحدى السنوات، ولم تتراجع إلا قليلاً في عام 2011، في بدايات الربيع العربي والحراك الشعبي الأردني.

لم يلتفت الوسط الصحافي الأردني، وخصوصاً ممن يديرون الصحف اليومية، كيف يسترجعون الجمهور الذي خسروه، ففي أوروبا صنعوا صحافة "المترو" لتقرأ، ولتلافي تراجع المقروئية. وتنبه اتحاد الناشرين الدوليين، منذ سنوات، إلى ظاهرة ابتعاد الشباب عن قراءة الصحف في زمن الإنترنت، فأطلق برنامجاً سمي "التعليم عبر الصحافة"، بحيث تستخدم الصحف وسيلة تعليم في الحصة الصفية، ما يشكل سياقاً ودافعاً لاستعادة الطلبة الصغار، وأيضاً أولياء أمورهم، وقد حقق البرنامج نجاحاً لافتاً في دول عديدة، منها الأردن، لكن الصحف لم تتفاعل بشكل إيجابي، على الرغم من أن وزارة التربية والتعليم رحبت به وساندته.

وتؤشر كل القراءات إلى أن الصحافة الورقية تعيش أزمة عابرة للقارات والحدود، وليس الأردن متفرداً في هذا الأمر، وربما يكون الفرق الأساسي أن هناك من يبذل جهوداً جدية في استكشاف أبعاد المشكلة، ووضع حلول سريعة لها، تبدأ، أولاً، من قراءة جيدة للمتغيرات في الدنيا، والأهم كيف نتغير مهنياً لنكون قادرين على مواجهة التحدي، بدل ممارسة ندب الحظ والبكاء على أبواب الحكومة، لتقدم لهم مصباح علاء الدين لمساعدتهم على الحل؟

وتعتبر 2015 سنة "كبيسة" على الصحافة الورقية في الأردن، وقد تشهد اختفاء صحف من السوق بعد احتضار طويل، ولا يعرف أين ستمضي حملات الضغط والمناوشات من جريدة الرأي ضد حكومة النسور، هل هي محطة عابرة، أم أن الأمر أبعد من أزمة مالية لجريدة، وأن هناك من دخلوا على الخط سابقاً، ولهم الآن مصلحة في "نهش" جسد الحكومة وإضعافها؟

وفي كل الأحوال، أزمة الصحافة الورقية عنوان لأزمة الإعلام في الأردن الذي يعاني التخبط، فمنذ خمس سنوات، وضعت خطة استراتيجية للإعلام، وصادق الملك عبد الله الثاني على خطتها التنفيذية، وحتى الآن ما تزال مكانك سر، فالتشريعات التي أوصى بتعديلها لزيادة مساحة الحريات الصحافية جرى تغييرها بشكل عكسي، وليس أدل على ذلك سوى قانون المطبوعات والنشر الذي أضيف إليه، لأول مرة، شرط ترخيص الإعلام الإلكتروني، في سابقة لم تحدث في العالم. وهذا الغموض، والتراجع عن الاستراتيجية قبل أن يجف حبرها، هو ما دفع وزير الإعلام الأسبق الصحافي طاهر العدوان للاستقالة احتجاجاً.

وقد سبقت قصة الاستراتيجية الإعلامية التي ما تزال تتحدث عنها الحكومات، وتقدمها باعتبارها رؤية متقدمة للحريات، تجربة لم يكتب لها النجاح، وتمثلت بالأجندة الوطنية، والتي تضمنت محوراً خاصاً بالإعلام. ولم تكتف الأجندة بتشخيص الأزمة، بل تعدتها إلى وضع تصورات مفصلة للحلول وإطار زمني للتنفيذ. ومع ابتعاد وتغييب وزير الإعلام ووزير البلاط الملكي الذي أعدها، مروان المعشر، حفظت في الأدراج، وظلت وثيقة مميزة تعرض على المانحين، للكشف عن الرؤية الاستشرافية للدولة الأردنية.

باختصار، تكشف أزمة الإعلام الورقي عن أزمة السياسات والممارسات في الأردن، فلا أحد قادراً على ضبط مفهوم السياسات الإعلامية، ولا أحد يمكن أن يتوقع أن حلفاء الأمس أصبحوا اليوم خصوماً يتراشقون الاتهامات.

لا بواكي للإعلام في الأردن، فقبل سنوات، كانت الصحافة الأسبوعية تشغل الجميع، وكانت رافعة للديمقراطية منذ إلغاء الأحكام العرفية وعودة الحياة البرلمانية عام 1989، لكنها خضعت للحصار والمطاردة، فانتهى أمرها أسماء لصحف اختفت وتوقفت عن الصدور، والخوف أن يكون مصير الصحف اليومية مماثلاً لما لاقته الأسبوعيات، فالصحف تحتضر وتموت، ولا أحد "يدقّ جدار الخزان".

4544416F-44A0-42D5-A824-5B5A388EDF32
نضال منصور

الرئيس التنفيذي لمركز حماية وحرية الصحفيين، ومقره في عمّان، ناشر جريدة الحدث/وموقع عين نيوز، عضو اللجنة الاستشارية لحرية الصحافة/اليونسكو 2000-2003. حائز على جائزة "Hellmann Hammett" بترشيح من هيومن رايتس وتش عام 1998.