الصحافة الاميركية وغزة: تغيّر ما يحدث في الخارطة الإعلامية

12 اغسطس 2014
تظاهرة ضد اسرائيل تضامنا مع غزة في نيويورك (Getty)
+ الخط -

وجدت الصحف الأميركية الكبرى، كـ "نيويورك تايمز" والـ"واشنطن بوست"، نفسها في مأزق وتحد في تغطيتها للحرب الإسرائيلية على غزة. واضطرت لتكثيف وتغيير نوعية تغطيتها، مقارنة بالحربين السابقتين للحرب الاخيرة.

وجاء هذا التغيّر نتيجة لعدة عوامل، بينها وجود عدد كبير من المراسلين على الأرض يعملون لمحطات وصحف أجنبية، الأمر الذي لا ينطبق على الحربين الأخيرتين. فقد اعتمدت أغلب الصحف الأميركية خاصة والأجنبية عامة في تغطيتها للحربين الأخيرتين على غزة، على الجيش الإسرائيلي ومؤسسات إسرائيلية رسمية.

وكان المراسلون في الغالب في القدس وتل أبيب أو داخل الحدود الإسرائيلية ولم يتواجدوا في القطاع. ولم ترسل أغلب وسائل الإعلام الأميركية الكبرى والصحف خاصة، أياً من مراسليها أو موفدين إلى القطاع المحتل. كما أن إسرائيل لم تسمح آنذاك لعدد كبير منهم بالحصول على إذن للدخول.

وتغطيات المحطات الإعلامية الأجنبية لفلسطين عموماً، إشكالية، حتى عندما تأتي من المراسلين الثابتين. فكثير منهم لا يتقنون العربية، وغالباً ما يسكنون إما في القدس أو تل أبيب في المناطق ذات الأغلبية السكانية الإسرائيلية. لم يتغيّر الأمر هذه المرة من حيث اعتماد الصحف الأميركية الكبرى بصورة شبه دائمة، على تقارير ومعلومات وتصريحات ومصادر جيش الاحتلال. إلا أن المشهد الإعلامي الأميركي يشهد تحولاً وإن لم يكن جذرياً، حيث اضطرت الصحف الأميركية الكبرى، ولأسباب عدة، إلى الاعتماد على مصادر إعلامية ومحلية من غزة ومتواجدة على الأرض، في تغطيتها الأخيرة.

وقام الناشطون على وسائل التواصل الإجتماعي وعلى وجه التحديد تويتر، بحركة غير مسبوقة بتوثيقهم وبصورة مستمرة بالصور والفيديو لما يحدث من حولهم، وسهل الوضع أن عدداً لا بأس به منهم يكتب مشاركاته بالإنجليزية.

واضطرت "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" إلى السماح لعدد أكبر من مقالات الرأي الداعمة للقضية الفلسطينية، مما تسمح به عادة، وهو الأمر النادر أصلاً. والمثير للسخرية هو أن الكثير من التيارات المناصرة للصهيوينية، اتهمت الـ "نيويورك تايمز" بالانحياز في تغطيتها للجانب الفلسطيني. وقال الأكاديمي والباحث في الإعلام، عادل إسكندر في مقابلة لـ "العربي الجديد" حول الموضوع إن "الوضع لا يزال بعيداً كل البعد، للحديث عن "انحياز" للجهات الفلسطينية، لكن المشهد الإعلامي الأميركي يشهد تحولاً نوعياً في التغطية للشرق الأوسط عامة وفلسطين خاصة". ويبدو أن جزءا من هذه التغطية الذي اتسم بمهنية إلى حد ما، جاء من باب "مجبر أخاك لا بطل".

نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" عشية المجزرة على "حي الشجاعية" في غزة، في 20 من شهر تموز/يوليو، مقال افتتاحيتها تحت عنوان "ردم حي في اليوم الأكثر دموية على الجانبين". وبدءاً من العنوان نلاحظ، أن الصحيفة تتحدث عن قتلى "على الجانبين" في حين أن ما حدث كان بالأساس قصف ومجزرة ارتكبها جيش مسلح بحق أبرياء عزل في الغالب، وفي الحديث عن "يوم دموي للجانبين" يتساوى الجلاد بالضحية.

حاجز بين الضحايا والقارئ
أما صورة الافتتاحية، فتظهر طبيباً فلسطينياً متكئاً على إحدى ثلاجات الموتى وحولها أكياس فيها جثث. الصورة غامقة بعض الشيء، كما أنها لا تظهر أي تعبير لوجه الطبيب أو الشخص المتكئ على ثلاجة الموتى لأنها مأخوذة من بعيد.‬ يدرك القارئ ما يحدث للطبيب لكنه لا يقترب عاطفياً منه أو من الضحايا. فالفلسطينيون أرقام وليسوا بشراً، وبهذا السياق يتم الحديث عن المجزرة، دون أي شخصنة لحياة أي منهم، وبذلك تضع الصحيفة حاجزا بين الضحايا والقارئ، كي لا يقترب أو يتضامن مع المنكوبين. وابتعدت الصحيفة عن تسمية الأمور بأسمائها الدولية والمتداولة في الأوراق الرسمية للأمم المتحدة. ومن بين هذه الأمور الحديث عن "الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي"/ وكأن ما يحدث في فلسطين هو صراع بين قوتين متكافئتين وليس بين مُستَعمِر ومُستَعمَر، أو دولة احتلال ومحتل.

وفي المقال ذاته، تحدثت الصحيفة عن جنديين إسرائيليين، يحملان الجنسية الأميركية ومقتلهما في الحرب. وانشغل المقال بذكر اسميهما والأماكن التي انحدرا منها في الولايات المتحدة. يأتي ذلك على عكس المتوقع اذ يغيب الضحايا الفلسطينيون عن المقال بسرعة وينشغل بسرد التحركات الدبلوماسية، من دون أن يضيف الكثير للمعلومات الرئيسية المتعلقة بقصف حي الشجاعية. في الربع الأخير من المقال، الذي يصل طوله إلى حوالي 1800 كلمة، ترد أقوال بعض الفلسطينيين الفارين من مجزرة الشجاعية، ولكنه يحرص على أن يشير إلى أن بعض السكان يخشون انتقاد حماس. وكأن الكاتبتين تحاولان بجهد تذكير القارئ أن حماس "حركة إرهابية" تضطهد المواطنين وأن ما يحدث من قتل للمدنيين على يد قوات الجيش الإسرائيلي هو "شر لا بد منه" لأنه سيخلص الغزيين من حماس! ويذكرنا هذا بوقاحة مندوب إسرائيلي للأمم المتحدة تحدث في إحدى الجلسات لمناقشة الوضع في غزة، عن أن الجيش الإسرائيلي يقوم بما يقوم به "لإنقاذ الغزيين من حماس". ويختتم المقال الذي يقوي هذا التحليل، باقتباس من أحد الضباط الإسرائيليين الذي يتحدث عن معركة ضارية "قادتها قوى الجيش حيث مقاتلو حماس كانوا يختبئون في البيوت ويطلقون النار من الشبابيك... في محاولة للحيلولة دون نمو أي تعاطف لدى القارئ.‬

حضور صحفي عربي

يقول إسكندر في هذا الصدد "لقد شعرت الصحف الأميركية الكبرى بالضغط بسبب ردود الفعل الغاضبة من القراء، الذين يرغبون بتغطية أوسع لما يحدث على أرض الواقع، كما أنها شعرت بالإحراج إذا لم تغط أعداد الضحايا المدنيين العالية". ويضيف إسكندر أنه ولهذه الأسباب وغيرها "بدأت صحف كـ "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" بإحداث بعض التغيّرات في مواقفها التحريرية، وأخذت تسمح ببعض المقالات الانتقادية للسياسة الإسرائيلية". ويؤكد أنها وبسبب المآزق المادية التي تواجهها، مضطرة للخضوع بشكل أكبر لضغط "السوق" أي القراء.
مقارنة بالحروب الأخيرة السابقة على غزة، يقول إسكندر، إن هذه الحرب "لقيت تغطية أوسع للقتل الإسرائيلي الممنهج، صحيح أن الوضع لم يصل بعد إلى المستوى المطلوب لكن تغيّراً ما يحدث في الخارطة الإعلامية". كما نلاحظ أن هناك عدداً لا بأس به من الإعلاميين العرب أو من أصول عربية بدأوا ينخرطون في صفوف وسائل إعلام عريقة ومرموقة في الولايات المتحدة والدول الغربية، مثل، أيمن محيي الدين مع قناة "إن بي سي" الأميركية، وليلى فاضل مع "إن بي أر" الأميركية، وشيرين تدرس مع "سكاي نيوز"، وفيفيان سلامة مع "اسوشييتد برس" وغيرهم، الأمر الذي يضفي عمقاً أكبر على تغطيتهم بسبب فهم أفضل للوضع في المنطقة.

ويشير إسكندر إلى أهمية وسائل الإعلام البديلة الناطقة بالإنجليزية والمستقلة مادياً، ومن ضمنها على سبيل المثال "ميريب" و"جدلية"، إضافة إلى مجلات كـ"الانتفاضة الإلكترونية" و"موندوفايس" وبرنامج "ديموكراسي ناو". إلا أن جمهورها يبقى في الغالب من الأكاديميين أو اليساريين المطلعين على الوضع أصلاً.

لكن إسكندر يرى أنه "لا يمكن حصر الجمهور في هذه الخانات فقط، حيث يتنامى جمهور الصحافيين الذين يتابعونها من أجل الحصول على تحليل وفهم أفضل للمنطقة، إضافة إلى توجه جمهور من الطلاب الجامعيين والمهتمين أو حتى الناس العاديين، لقراءتها، خاصة في أوقات الحروب لفهم أفضل للوضع على الأرض".

إن الحديث عن "معاناة الجانبين" الذي تحاول أن تتذرع به الكثير من الصحف الأميركية الرئيسية يضع مصداقيتها المهنية على المحك، لكن يبدو أن رياح التغيير قادمة وإن ببطء.

المساهمون