"الشِعر لا يُطعم خُبزاً".. عبارةٌ يجري تبنّيها من زاوية النَفْعِ والجدوى، فالشِعر، بالنسبة إلى كثيرين، خسارةٌ وعَوز ما لم يكن مصدراً للمال.
هذا يُحيل، وبصيغة جارحة، إلى ما قاله الروائي السوريّ حنّا مينه، في معرض سيرته الذاتية، إذ وصف حاله بعد سنين طويلة من الكتابة بأنّها "مستورة"؛ معتبراً هذه المهنة "أقصر الطرق إلى التعاسة الكاملة". أمّا صاحب "الإمتاع والمؤانسة"، أبو حيان التوحيدي، فكان يُسمّي مسألته مع الفقر "مَلِكة المسائل".
التباسٌ كبير، إذن، في التعاطي مع الكتابة بشكل عام، ومع الشِّعر بشكل خاصّ، يشهده الأفراد، كما تشهده المجتمعات على اختلافها وتنوّعها. إلا أنّ الثابت أنَّ النظرة إلى الإبداع محكومة دائماً بعواملَ عديدة، ثقافيّة وغير ثقافيّة. في وقتٍ تبدو فيه طرائق التلقّي، تتأرجح بين الأثر والتأثير حيناً، والحالة والحاجة أحياناً أخرى.
صحيحٌ أنّ ظروف المثقّف العربي اختلفت نسبيّاً عمّا كانت عليه في الماضي، إذ كان موسوماً دائماً بصورة الكادح والمعزول والمضطهد جرّاء انحيازهِ الطبيعي إلى ظرفه التاريخي المهزوم، والذي جعله - في القرن الماضي - على صِدام محموم مع السلطة بأنواعها، والأنظمة وأموالها. إضافة إلى أنّ حركة الحداثة العربية، أنتجت معارضات سياسية، وتيارات فكرية رافضة، انخرط فيها كثير من المثقّفين والشعراء والأدباء، بينما انحاز آخرون إلى السلطة وأُعطياتها ومباهجها.
لكن المثقف العربي اليوم، رغم ما شهدته المنطقة من تحوّلات، ورغم ما يتم رصده من أموال للعمل الثقافي والإبداعي في بلدان عربية عديدة، ما زال يعيش أجواء ظرفه المهزوم، وما زال متّصلاً بما كان، وما زالت صورته النمطيّة في وعي الجُمهور -المتصل بما كان أيضاً - على حالها.
بالولوج إلى أزمة النخبة، وحال النظم السياسية، وانحسار التنمية، نجد أطراً عامّة للإجابة عن كثير من الأسئلة في سياق العلاقة بين الإبداع والمال، القيمة والجدوى، المادّة والروح.
لكن، من جهة ثانية، من الذي يحدّد علاقتنا بالكتابة؟ الذات أم الآخر؟ الواقع أم الحاجة الملحّة؟ ومن الذي يؤسّس لحركيّة الإبداع؟ النصّ أم المؤسّسة؟ الفرد أم الجمهور؟ وإذا صحّ وجود الجمهور بالمعنى الواسع، الذي يرى كثيرون أن لا معنى له في الاشتغال الفني الخاصّ، فإنّ علينا أن نعرف أن هذا الجمهور المفترض، ما زال يتّخذ وجهين من الكتابة على أنّهما الشِعْر: الوطن في ضواحي البكاء الفجّ والخطابة العمياء والبطولة الزائفة، والحُبّ في ضواحي العواطف الباهتة والمشاعر الرخوة والتهويمات الباردة.
هكذا، يبدو الشِعر مادة استهلاكيّة، لا مادة عضوية أصيلة، منبثقة عن أدواتٍ خاصّة، ومعرفة أليمة. وهكذا، ينصرف عن شواغله العميقة ليتحوّل من كائن مشحون بطاقة التعبير الكُبرى إلى مجرّد وسيلة وظيفية، أو أداة متاحة لخدمة الواقع والاندماج فيه.
إنَّ واقعاً تحكمه الضرورة، لا يمكن له أن ينتج إلا ثقافة من جنسه. ثقافة ضرورة؛ قلقة وشائهة، تعيش على السطوح وتسترخي فيها. فهل يغفل كثير من الشعراء النجوم، اليوم، عن الحقيقة التي جعلتهم نجوماً؟ هل يسأل شعراء الضرورة عن ضرورةِ وجودهم؟
اقرأ أيضاً: الشعرية والقارئ: طائرة ورقيّة أفلتت من يد