وفي إسبانيا الأمور ليست أفضل حالاً؛ من بين 47 مليون نسمة، على الأقل 11 مليون نسمة ونصف معرضين لخطر الفقر. واحد من بين خمس عائلات في القوة الاستعمارية القديمة يرى نفسه مهدداً. أميركا اللاتينية ليست القارة أكثر فقراً، ولكنها أكثر من يتجلى فيها هذا التّباين، الأكثر تمثيلاً للمفارقات في العالم.
فهل يمكن القول إن اللغة الإسبانية هي لغة الفقراء؟ هل يصحّ القول إن الشّعر يُكتب في سياق فقر جذري وقليل من، أو حتى في غياب، الآمال والتطلعات نحو المستقبل؟ هل تقف وراء القصائد، كتابتها أو تلقيها أمور مثل: سوء التغذية والصّحة ومستوى المعيشة والتّنمية؟
إزرا باوند لم يكن مخطئاً عندما اعتقد أن الشاعر يمثّل لاقطاً للعِرْق. الشعر الذي يكتب في زماننا، وصراعاته، يكشف عن اللايقين والإحباط والقلق في الفضاء الاجتماعي.
يقول والرشتاينْ إن الأزمة العميقة هي علامة على "أننا نعيش انتقالاً من نظامنا العالمي القائم، اقتصاد العالم الرأسمالي، نحو أنظمة عالمية أخرى1.
ويضيف: "هناك ثلاثة جوانب لمرحلة الانتقال يمكن الإشارة إليها. أما الأول، فسيكون طويلاً، ربما سيستغرق خمسين عاماً. والثاني، سيكون فوضوياً، وبالتالي، ليس غير سار فقط وإنما رهيب. والثالث، فنتائجه ستكون غير واضحة تماماً. شعر أمام عدم اليقين.
ولكن، ماهي سلوكيات الشعر الحالي أمام هذه الوضعية المحدودة؟ التقليد الشعري الشمال أميركي، مثلاً، حلّ بطريقة ما الصراع بين أنواع الشعر واقترح مسار "الشعر المُهجّن"، الذي بدوره كان له وقع في الإسبانية، الذي عوّض "القصيدة المنظومة نظما جيدا" بالتصوريّة، والتي هي قريبة جداً من "الشّعر المِلْفَاف" (أو الإهليلجي) الموضوع من قبل ستيفن بورتْ.
هذا الشعر "المِلْفَاف" ينطلق من سؤال جوهري في زماننا الغامض: "كيف يمكن لعدم اليقين هذا أن يصبح موضوعا للشّعرية، وكيف يمكن للأساليب الجديدة، والمكسورة والصعبة، أن تكشف عن المواقف والمشاعر التي تنطوي على شخص ما"2.
ما هو واضح في الشعر الحديث المكتوب بالإسبانية أنه منعطف. شعرنا وصل إلى ما سمّاه آلآنْ باديُو بـ"نقطة"؛ تلك اللحظة التي، في حالة معينة للأشياء (ركود اللغة العامية و"شبه انعدام" جمالية شعريات الخطر)، فالمطلوب هو تغيير الاتجاه، تغيير دفة القيادة، وبدء عهد جديد3. ليس أخذ خطوة جانبية وإنما التقدّم إلى الأمام: إعادة ابتكار الشعر الغنائي.
الشعر الجديد، المشترك بين مؤلّفين من أجيال متباينة، "يعرف" أن التقليد الأدبي هو مجموع الأساليب والإجراءات الأسلوبية البلاغية على مدى تاريخ الأدب لثقافة مجتمع. هذه المجموعة من المواضيع، من إجراءات وآليات سميائية، تشكل نسقاً. ويشمل هذا التقليد، بطبيعة الحال -ومما يجعلها ملكه- تلك المساهمات، والإبداعات، والبحث عن لغات أدبية جديدة دون أن نغفل، كما قال بيير بورديو، أنه أحياناً "يعلن التقويض الهرطقي نفسه كرجوع إلى المنابع، إلى الأصل، إلى الروح، إلى حقيقة اللّعبة، ضد الابتذال وتدهور ما كان هدفاً".
يُكتب في اللغة الإسبانية طولاً وعرضاً شعر يطالب بقيمتين أساسيتين: الأنا والبحث عن العاطفة (رثاء) كغاية للممارسة الشعرية. ومن جهة الرجوع إلى الأنا، ينطلق من الحاجة إلى العودة إلى الشعر الغنائي واسترجاع "ذاك الشيء" الحاضر في "الشعراء المتمكنين" من كل التقاليد، والذي يطلق عليه مارك ستراند "الإلحاح الداخلي"4. المناجاة المأساوية (الدرامية) إضافة إلى تحوير الأصوات، وحذف وتكوين الاستعارات هي من بين بعض الطرق المفضلة لدى هذا الشعر، ومن ناحية أخرى، في بحث مستمر وتنقيب عن لغة أدبية قادرة إلى إظهار الخلل والارتباك المميزين للزمن الذي نعيشه5.
هذا الشعر المنبثق مباشرة من "المُواءمة" لم يعد يؤمن بالنص غير الموافق للمَنَاخِ السّائد، ويعتبر أن الاختلالات اللّغوية المتنوعة، ونموذج التّصدعات والانحرافات عن القاعدة اللّغوية، هي بمثابة محفّزات تطلق العنان للآثار العاطفية. العودة إلى "الحراك" اللاّتيني، جوهر ومحرك الإحساس6.
الشّعر الجديد يَعرف كذلك أن من بين مهامه ذات الأولوية هي "إعادة ما قيل"، وإعطاء أجوبة، وتفسيرات للعالم، رغم أنها مفهومة من الريبة والتردد. تبجيل الشكل، وتضمينه أكثر قدر من المعاني.
يتعلق الأمر بشعر يحدث شعوراً، وفي أفضل الحالات، يحدث قشعريرة ورجّة. لكن ليس شعراً تواصلياً فحسب وإنما يكشف، ويحدس، ويطرح أسئلة، ويضيع ثم يجد نفسه فيما بعد، وشعر يقول شيئاً، ويحمل معنى. شعر يتبع نهج إِرْنِسْتْ بلوشْ عندما قال: "التفكير يعني التّجاوز". المثالية في بداية هذا القرن، كما قال بْلوشْ نفسه، هي ليست رجوعاً إلى "شعر واضح"7 بل البحث عن "المعنى"، إذا أريد، بمعنى آخر8.
شعراء أيّامنا هذه، ودون علم ربما، يطمحون في البرنامج الفكري التّحرري المعاصر عينه، الذي تقدم به إمانويل والرشتاينْ:" علينا إبداع نسق تاريخي جديد دون التّأكد من أننا سنخرج منه منتصرين. يجب علينا فعل ذلك لأن هناك فرصة لإعادة إبداع العالم، ولكن أكرّر، ونحن غير متيقنين من أننا سننجح".
في هذا العبور الغامض، الشعر هو جسر وهاوية: سواء أكان حواراً إنسانياً أم لا. في هذا الزمن المفتوح، البحث عن الجديد المقدس في الشعر يتطلّب، بشكل حتمي، رجوعا إلى الجذر، الذهاب إلى الأصل والأساس، العودة إلى الإنسان.
هامش
1 وَالرْشْتَايْنْ يقول: "يجب التسطير على ثلاثة جوانب حول الحاضر والفترة القادمة من الفوضى والتفكك. رغم أن التجربة ستكون رهيبة، لكنها سوف لن تكون للأبد. نعلم أن الوضعيات الفوضوية تنتج في حد ذاتها أنساقاً منظّمة. قد لا يكون هذا بمثابة عزاء إذا اعتبرنا أن هذه العملية يمكن أن تستغرق خمسين عاماً. الشيء الثاني الذي يجب أن نأخذه بعين الاعتبار هو أن علم التعقيد يعلمنا أن الوضعيات الفوضوية الناجمة عن تفرّع نتيجة في الأصل يتعذر التنبؤ بها".
2 يتميز الشعر الهجين، وفقا لكول سْوِينسنْ، بـ"تطوير المناهج التقليدية مثل السرد الذي يفترض حضوراً ثابتاً للشخصية الرئيسة، رغم ذلك يتعقّد الأمر عند تكسير الخط الزّمني أو تغيير تسلسل بنية الجملة. أو ربما، في المقام الأول، بأساليبها المعروفة باعتمادها على التجربة، فمثلاً، غياب المنطق أو التقطيع، اللّذان ومع أنهما يتبعان القواعد الشكلية الصارمة للسوناتة (قطعة شعرية غنائية مكونة من 14 بيتا) أو الفيانيا ( قطعة شعرية رعوية صغيرة). أو يمكن أن تتألّف بكاملها من الكلمات المستحدثة، لكن مستندة على التقليد القديم. وباعتبار الجوانب المرتبطة بالعمل "التقليدي"، مثلاً، الاتساق، والخطية، والوضوح الشكلي، والسرد، والقفلة المحسومة، والصدى الرمزي، وصوت مستقر، وعلاوة على هذه الأمور العامة كلها المعتمدة من قبل العمل "التجريبي"، كاللاّخطية، والتّجاور (الإضافة)، والانقطاع، والتقطيع، والتلازم، ووجهة نظر متعددة، والشكل المفتوح والقوة في الإنهاء؛ لدى الشعراء المهجّنين إمكانية لولوج أدوات غنية، كل واحدة منها لها القدرة على تحويل القصيدة بشكل جذري، اعتماداً على كيفية توافقها مع غيرها والدّور الخاص الذي تلعبه التركيبة. الشعراء المهجّنون، غالباً ما يحترمون قواعد الحركة التجديدية في تحديث الأشكال وتوسيع حدود الشعر - ومن ثم زيادة القدرة التعبيرية للغة اعتمادا على نفسها- وفي الوقت نفسه الالتزام بالطّيف العاطفي للتّجربة المُعاشة.
هذه الأشياء التي قد تبدو مختلفة جدا فيما بينها هي في الأساس اجتماعية في طبيعتها وبالتالي تقرّ بواجب اجتماعي؛ وتبين بهذا الشكل أهميتها المستمرة في الشعر. الشعر الهجين صريح، لكن في أشكال تغفل الخطاب الطوباوي الذي أصبح سائداً في هذه الحقبة التي وسائل إعلامها مُتحكّم فيها أكثر فأكثر من لدن أناس قليلين. بينما المشاكل السياسية استطاعت أم لم تستطع أن تكون الموضوع الظاهري للعمل المُهجّن، فإن ما هو سياسي هو دائما حاضر في الالتزام المتأصل في استعمال اللّغة في طرائق مختلفة التي ما تزال مسموعة ومفهومة من عامة الناس بشكل عام".
3 يوضح آلان باديو: "يحدث "أمر" ما عندما تكون هناك آثار مترتّبة عن بناء حقيقة، سواء أكانت سياسية، أو عاطفية، أو فنية أو علمية، تجد نفسها مضطرة فجأة لإعادة النظر في الخيار الجذري، بداية جديدة".
4 كتب مارك سْتراندْ حول الشعر الغنائي: "هناك شيء في هذه القصائد يهزّني بطرائق لا أفهمها تماما، كما لو أنها تتواصل معي أكثر مما يقال فعليا. هذا هو ما يحدث مع القصائد المنظومة نظما جيدا: لديها هوية شعر غنائي تتجاوز مكوناتها. يمكن لقصيدة أن تكون نتاجا لحاجة داخلية ملحة".
5 أيضاً، هذه العودة الحرجة إلى الأنا يتطلّب مشروعا أخلاقيا، وعملا سياسيا حيث يصبح الموضوع كائنا محوريا. يقول ليوناردو بوفْ، من خلال لاهوتية التّحرر أن "هناك تمركزا اجتماعيا جديدا، العقلانية اللاّزمة الجديدة والمُخلّصة، المبنية على "الرثاء"، في الأحاسيس العميقة ذات انتماء وتضامن، وألفة، واستضافة، وزمالة بين كل الكائنات الطبيعة".
6 تنتج القصيدة المكثفة "عاطفة، وحركة في طريقة الوجود، وتغييراً (…) يجلب تغييراً في الجسم والروح (…) هي حالة مرضية، تدل على حركة، على وجه التحديد، حركة اضطراب". من ناحية نظرية مغايرة، يشير يوري لُوتْمانْ إلى أن "الفن يَبني بالرموز واقعا فزيائياً مزيفاً من درجة ثانية، محولاً النص السيميائي إلى نسيج شبه مادي قادر على تحقيق لذة فزيائية"، أي، يحدث رعشة.
7 يشرح الناقد الأمريكوشمالي، كريستيان ويمان، الأمر بشكل ممتاز: "الشعر، كالحياة، فيه ثغرات شديدة الظلمة، وزوايا مجهولة حيث يسطع المعنى بطريقة مظلمة وينبغي أن يبقى في مثل تلك الظُلمة إذا أراد أن يستمر في أن يعنى شيئا ما".
8 هذا البحث عن المعنى، من جهة أخرى، يقوم على أعمال المجموعة ´يو` عندما تكتب:" من أين يأتي المعنى؟ أطروحتنا حول هذه النقطة هو أن المعنى يأتي من الحركة المزدوجة التي تنتقل من العالم إلى الموضوع السيميائي والعكس صحيح". وإذا، كما يدافع من خلال أبحاثه البلاغية، أن المعنى هو "نتيجة عمل من أعمال تقطيع سلسلة "متواصلة" ومَهَمَّةُ الشاعر هي بناء الطبقات المختلفة، والرمز، والانقطاع الذي يعجل بسيرورة العلامات. بهذه الطريقة، يخلق الشعر معنى، "يقترح تقطيعات جديدة لما يمكن تصوّره". من ناحية أخرى، ماهية عملية البحث هذه عن معنى آخر؟ يفسر الشاعر الإسباني بنيامين بْرادُو الأمر على المنوال الآتي: "الشعراء المتمكنون هم كذلك لأنهم يُفَهّمُوننا الأشياء بقدر وعمق أن الأشياء ليست قادرة على أن تقدّم نفسها بنفسها".
على سبيل المثال، تشير الشاعرة الأرجنتينية ديانا بييسي، إلى هذا البحث عندما كتبت: "يبدو اليوم الفزياء الكمي كأنه يأخذ جوانب من النظرية القديمة للقياسات عندما يقول لنا أن من تحت نظام الكون الذي نعرفه، يكمن نظام منكفأ على نفسه". ذهب الشاعر ماريو كالديرون أبعد من ذلك، من خلال الشعر والقدرات المعنوية الواسعة للغة، عند "فكه رموز" بنية الواقع نفسه وإعادة تكوين فكرة المصير. فالشعر، والتحليل النفسي، والفزياء يتغيرون من أجل إعطاء تفسيرات جديدة للحياة وللعالم. هذا هو لب الموضوع: التنقيب، من أجل إخراج المعنى.
الجزء الأول من الدراسة
الجزء الثاني من الدراسة
الجزء الثالث من الدراسة
* Alí Calderón شاعر وناقد وأستاذ جامعي مكسيكي، من مواليد 1982.
** ترجمة عن الإسبانية محسن بندعموش
اقرأ أيضاً: باو باديل: ثم إنني الهامشي