01 نوفمبر 2024
الشعب ويد الزعيم
في بدايات الربيع العربي، حينما كان الحلم أنه سيكون ربيعا حقيقيا، استطاع شباب العرب الذين نزلوا، بأصواتهم ورغبتهم بالتغيير، إلى شوارع المدن العربية وساحاتها، إعادة الاعتبار إلى مفردة "الشعب"، بعد أن تحولت، عقودا طويلة، إلى شعار مفرغ من معناه، ومستبدلة بمفردة "الجماهير" التي استخدمها الزعيم الراحل، جمال عبد الناصر، وصدّرها، كما صدّر تجربة "ثورات" العسكر، إلى باقي الدول العربية، فمفردة الجماهير توحي مباشرة بقطعان من البشر تسير وراء الراعي/ الزعيم الذي يلوح بيده، ليدل القطيع على وجهته، الزعامة السياسية بأشكالها الديكتاتورية المتعدّدة كان يلزمها هذه الجماهير التي تهتف للزعيم القائد، لاسمه ولحياته ولسلطته ولبقائه الأبدي، بينما اسم الوطن في هتافات الجماهير بقي في الخلفية، أو نسب إلى الزعيم القائد. وحدها مصر شذّت قليلا عن القاعدة هذه، على الرغم من أنها التي صدّرتها، ظلت الجماهير تهتف لمصر، كما تهتف لجمال عبد الناصر، فمصر، الأمة المهولة، بحجمها وحضورها وتاريخها، كان سيصعب على أي زعيم، حتى لو كان صاحب كاريزما خارقة كعبد الناصر، أن ينحيها جانبا.
ما كان مرادا له أن يكون ربيعا سوريا، أعاد الاعتبار أيضا إلى مفردة الشعب السوري، صار لهذا الشعب صوت وحضور ورائحة وذاكرة ونبض، صار الشعب حقيقيا، حاضرا، يريد ويطالب ويصرخ ويهرب، ويطرح آراء وافكارا ويناقش ويختلف ويشتم بعضه بعضا، وينحاز ويصطف ويدعم ويساعد ويندفع. لم تعد صفة "الجماهير" تتناسب مع ما يفعله السوريون. يد الزعيم القائد لم تعد تلوح لتدل قطيع الجماهير على الاتجاه. صارت هناك اتجاهات أخرى معاكسة لجهة يد الزعيم، في هذه الأثناء وسلطته أيضا، بدأ اسم الوطن السوري يتقدّم إلى المقدمة، بقوة وسرعة، تشبه السرعة التي سقطت فيها يد الزعيم/ القائد وصورته، حين يصبح الوطن في المقدمة يكون هناك شعب حقيقي، متنوع ومختلف ومتعدّد، حين يجلس الوطن في الصفوف الخلفية، لن تكون هناك سوى قطعان الجماهير التي تميل في اتجاهٍ واحدٍ لا يحيد عنه أحد.
غير أن ثمن التحول السوري من جمهور إلى شعب كان داميا، دفعت مثله قلة من شعوب الأرض، عبر عقود طويلة. ليست السنوات السبع السورية الماضية سوى فصل قصير جدا مما حدث مع تلك الشعوب، لكنه لنا، نحن السوريين، هو فصل لا مثيل لقسوته وعنفه، فصل نسف حلما رائعا بالتغيير، إذ لم يبق من أولئك الحالمين الذين مالوا عكس اتجاه يد الزعيم سوى القلة، والوطن الذي تقدّم إلى الأمام تقدم على عربات الدم، صار وطنا قاتلا. وفي أحسن الأحوال، قبرا جاهزا للإغلاق، يمكنه أن ينغلق بسرعة مهولة على من بقي فيه، أو أن يصبح جدارا في وجه من خرجوا منه. أما الدم الذي حمل الوطن إلى المقدمة، فقد حول الشعب/ الحلم إلى مجموعة من الشعوب التي يفرّقها الكثير، بينما تقل المشتركات بينها يوما وراء يوم.
هل هذه الشعوب السورية (ليس على طريقة بوتين حتما) المختلفة، يمكنها أن تلتقي يوما؟ وهل الافتراقات بينها يمكنها أن تسمح بإعادة بناء وطنٍ لا يرفع على حاملة دم، ولا على اسم زعيم؟ بالتأكيد، لا يوجد شعبٌ في الأرض يتشابه أفراده، فحضارات الشعوب تبنى على المتناقضات والاختلافات التي تجمع أبناءها. التشابه والتماثل لا ينتجان حضارة، لا ينتجان سوى قطعان من الجماهير تميل مع يد الزعيم. لهذا تقتل المؤسسات الشمولية، السياسية والدينية، الخارجين عن القطيع، كي لا يصاب الآخرون بعدوى الخروج نفسها. لهذا غالبا ما تأخذ الثورات مسارا عنفيا دمويا، وغالبا ما تحتاج موجات طويلة الأجل، لكي تنجح أو تطبق بعض شعاراتها، فقمعها والسيطرة عليها ليس فقط شأن الاستبداد السياسي، بل شأن الاستبداد الديني أيضا. ما حصل في أوروبا في القرون الماضية مع الكنيسة دليل تاريخي، ما يحدث في بلادنا، في سورية تحديدا، دليل حاضر وصريح. لهذا أيضا، يرفض الاستبداديون دولة المواطنة، ويعملون على وأدها كلما ظهرت بوادر لها، فدولة المواطنة هي الوحيدة القادرة على جمع كل التناقضات في شعبٍ واحد، هي الوحيدة التي تحترم معنى أن يكون لديها "شعب" لا يتحرّك حسب حركة يد الزعيم القائد.. في دولة المواطنة أصلا لا يوجد زعيم قائد.
ما كان مرادا له أن يكون ربيعا سوريا، أعاد الاعتبار أيضا إلى مفردة الشعب السوري، صار لهذا الشعب صوت وحضور ورائحة وذاكرة ونبض، صار الشعب حقيقيا، حاضرا، يريد ويطالب ويصرخ ويهرب، ويطرح آراء وافكارا ويناقش ويختلف ويشتم بعضه بعضا، وينحاز ويصطف ويدعم ويساعد ويندفع. لم تعد صفة "الجماهير" تتناسب مع ما يفعله السوريون. يد الزعيم القائد لم تعد تلوح لتدل قطيع الجماهير على الاتجاه. صارت هناك اتجاهات أخرى معاكسة لجهة يد الزعيم، في هذه الأثناء وسلطته أيضا، بدأ اسم الوطن السوري يتقدّم إلى المقدمة، بقوة وسرعة، تشبه السرعة التي سقطت فيها يد الزعيم/ القائد وصورته، حين يصبح الوطن في المقدمة يكون هناك شعب حقيقي، متنوع ومختلف ومتعدّد، حين يجلس الوطن في الصفوف الخلفية، لن تكون هناك سوى قطعان الجماهير التي تميل في اتجاهٍ واحدٍ لا يحيد عنه أحد.
غير أن ثمن التحول السوري من جمهور إلى شعب كان داميا، دفعت مثله قلة من شعوب الأرض، عبر عقود طويلة. ليست السنوات السبع السورية الماضية سوى فصل قصير جدا مما حدث مع تلك الشعوب، لكنه لنا، نحن السوريين، هو فصل لا مثيل لقسوته وعنفه، فصل نسف حلما رائعا بالتغيير، إذ لم يبق من أولئك الحالمين الذين مالوا عكس اتجاه يد الزعيم سوى القلة، والوطن الذي تقدّم إلى الأمام تقدم على عربات الدم، صار وطنا قاتلا. وفي أحسن الأحوال، قبرا جاهزا للإغلاق، يمكنه أن ينغلق بسرعة مهولة على من بقي فيه، أو أن يصبح جدارا في وجه من خرجوا منه. أما الدم الذي حمل الوطن إلى المقدمة، فقد حول الشعب/ الحلم إلى مجموعة من الشعوب التي يفرّقها الكثير، بينما تقل المشتركات بينها يوما وراء يوم.
هل هذه الشعوب السورية (ليس على طريقة بوتين حتما) المختلفة، يمكنها أن تلتقي يوما؟ وهل الافتراقات بينها يمكنها أن تسمح بإعادة بناء وطنٍ لا يرفع على حاملة دم، ولا على اسم زعيم؟ بالتأكيد، لا يوجد شعبٌ في الأرض يتشابه أفراده، فحضارات الشعوب تبنى على المتناقضات والاختلافات التي تجمع أبناءها. التشابه والتماثل لا ينتجان حضارة، لا ينتجان سوى قطعان من الجماهير تميل مع يد الزعيم. لهذا تقتل المؤسسات الشمولية، السياسية والدينية، الخارجين عن القطيع، كي لا يصاب الآخرون بعدوى الخروج نفسها. لهذا غالبا ما تأخذ الثورات مسارا عنفيا دمويا، وغالبا ما تحتاج موجات طويلة الأجل، لكي تنجح أو تطبق بعض شعاراتها، فقمعها والسيطرة عليها ليس فقط شأن الاستبداد السياسي، بل شأن الاستبداد الديني أيضا. ما حصل في أوروبا في القرون الماضية مع الكنيسة دليل تاريخي، ما يحدث في بلادنا، في سورية تحديدا، دليل حاضر وصريح. لهذا أيضا، يرفض الاستبداديون دولة المواطنة، ويعملون على وأدها كلما ظهرت بوادر لها، فدولة المواطنة هي الوحيدة القادرة على جمع كل التناقضات في شعبٍ واحد، هي الوحيدة التي تحترم معنى أن يكون لديها "شعب" لا يتحرّك حسب حركة يد الزعيم القائد.. في دولة المواطنة أصلا لا يوجد زعيم قائد.