مع تطوّر نمط الحياة في المجتمعات العربية، تواصل النظم الحاكمة عبر انتهاجها سلوكاً اقتصادياً جشعاً يعمل على تسليع الحجر والبشر، فاقم في مساره من عولمة رأس المال وترك آثاراً سلبية خطيرة على المناحي الاجتماعية والثقافية لدى فئة واسعة من الشباب؛ لكونها الفئة العمرية الأكثر نشاطاً في العملية الإنتاجية، ولسهولة انقيادها وراء التسهيلات التي تتيحها "مفاتن" الرأسمالية و"إغراءاتها".
شهد العقدان الأخيران مناخاً اقتصادياً تحررياً عززه النمط الاستهلاكي، الذي ساد في نهاية الثمانينيات وكثّفته مفاعيل انهيار الاتحاد السوفياتي، واتّجاه العالم نحو فردانية شكّلت لبّ المفاهيم الثقافية والممارسات الاجتماعية، وأنتج بيئة استهلاكية بدت أكثر تأثيراً وخطورة على مجتمعات الدول النامية لاعتبارات كثيرة، منها الثقافي والاستراتيجي والاجتماعي. وساهمت تلك الدول بشكل أو بآخر في تسكين الشباب عبر لجوئها إلى "أنسنة العولمة"؛ فبدأنا نسمع بالاقتصادات التضامنية وتشجيع المشاريع ومؤسسات التمويل والقروض المصرفية.
وجد طيف واسع من الشباب في لبنان نفسه في دائرة صراع في الحيز التعليمي وفي البيئة المحلية وفي سوق العمل، وزادت السياسات الاقتصادية المتعاقبة في حكومات ما بعد الطائف في تهميش مبادئ التكافل والتشارك، وشجّعت عبر دعاية "محاربة الفقر" التي يرعاها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي على "إنتاج الفقر"، أو إعادة هيكلته في سياقات متعددة، يأتي في مقدمها تزايد أعداد العاطلين عن العمل والطامحين إلى الهجرة.
أدى تطبيق السياسات النيوليبرالية إلى إنهاك الطبقة العاملة وضرب قوتها الإنتاجية، التي يمثلها الشباب عبر تمركز الثروة بيد أقلية من المتموّلين وأصحاب النفوذ، فلجأ الشباب إلى الاقتراض كحلّ أوّلي وضعته الحكومات طوق نجاة، بعد أن ضربت مستقبل الشباب في إيجاد فرص عمل تتناسب مع اختصاصات ومقدرات التحضير التعليمي.
والحال أنّ أسباب الاقتراض تتنوّع وتتعدّد من حاجات حقيقية كتوفير السكن وضروريات الحياة كإتمام المرحلة الجامعية، أو تأسيس مشروع عمل خاص، إلى كماليات عزّزت النمط الاستهلاكي في رغبة في التشبّه بالآخرين وسيطرة حب المظاهر كشراء المجوهرات، وبعض السلع الاستهلاكية، إضافة إلى الرغبة في السفر لقضاء عطلة مؤقتة.
أصبحت فكرة شراء شقة في بيروت وإمكانية اقتناء سيارة ضرباً مستحيلاً؛ لذلك سادت موضة "التقسيط" لدى الشباب، الذين يحاولون الحصول على وظيفة ثابتة ولو بدخل محدود؛ ما يسمح لهم بالحصول على قروض مصرفية تتيح لهم تحقيق طموحاتهم ولو بشكل بطيء.
على أنّ سياسات المؤسسات المانحة للقروض لا تتبنى الشفافية في تعاطيها مع الشباب؛ فيجد الفرد نفسه غارقاً في أكثر من قرض متعدد المصادر، ولا يهتمّ بالضبط بالمبلغ الذي سيسدده؛ لأنّه يقع فريسة نسبة الربح المئوية الضئيلة التي توفّرها البنوك وضحية الإعلانات والدعائية التي تسوقها في سبيل جذب المقترضين. وأمام هذه المعاناة والضغوط النفسية التي تفرضها القروض، تزداد حياة الشاب المقترض تعقيداً بعد أن يكون الخلاص قد تبدّى قريباً لحظة الاقتراض.
هنا، يمكننا القول إنّ الدفع إلى الاقتراض، الذي تترجمه سياسات الحكومات اللبنانية بطريقة غير مباشرة، في ظل انكفاء الكوادر وتكتلها ضمن أطر حزبية في مسعى إلى الإستفادة من "الواسطة" الحزبية لتأمين وظيفة ثابتة، لا يعمل على تحسين شروط حياة المقترضين بقدر ما يزيدها تعقيداً؛ لأن الأهداف من برامج القروض والسلفات تفضي بتحقيق الاندماج الاقتصادي ومحاربة الفقر والبطالة والسعي إلى تحقيق تنمية مستدامة؛ لا إعادة إنتاج سلبيات النمط الاستهلاكي الذي يستهدف الشباب وطموحاته.
(لبنان)