كيف نما البحر على اسمي وعانقني؟، أنا الترابي الذي نما من تزاوج حبتي حنطة في سهول ذلك الريف البعيد، لم أحمل من الهواء المُعفَّر بالغبار سوى سحنتي التي تميل إلى الطحين، الطحين الذي يقتاته الناس على هيئة أرغفة سمراء.
أنا الريفي الذي في مواسم الحصاد يراقب هيبة المناجل ويسمع السنابل تصرخ به: كفّاك ماكرتان، وعقيم هو الموت، عقيم يفضحه ما ينهال منّا على التراب، ويفضحه المطر الجديد، عقيم يفضحه الحب في إغفاءة أنثى على ذراعك.
أنا الريفي الذي تناهبته البلادُ وما يزال يخبئ تحت أضلعه الطفولةَ، وكلما ضاقت عليه الجهات أخرج ما كانه من ولدٍ شقيٍّ يعبث بالماء الراكد في شوارع ذكرياته، أراني الآن حافيا في شتاء قديم، مبللا بالمطر والحنين والأغنيات.
"مرّينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل" ولأقبحُ الأصوات عند فراقكم صوتُ القطار، لا أحد في هذي المدن الباردة يعرف كيف يكون صوت القهوة حين تُدقُّ، ولا ما تفعله في الأرواح رائحة الهال، "يا ريل صيح بقهر صيحة حزن يا ريل"؛ كيف يمكن للعشب أن ينمو على سكك القطارات؟ أو ربما كيف لا ينمو والسكك الحديدية تئنّ من وقع الرحيل؟ هل تشعر أنك قطار؟ أو هل انتابك أنك محطة والقطارات والمسافرون والوداعات واللقاءات كلها تنمو أمام بابك الذي يطلقون عليه مجازا اسم "عينين"؟.
أنا الريفي ما زالت خطوط راحتيَّ تأملان بالتلاقي كي تنفي ما تقوّلته المنجمات عن استحالة أن نكون، وهنّ يثقن بأنهنّ كاذبات، وبأن ثمّة من يصدّق حديثهنّ، أمي وجاراتها في قهوة الصباح وجلسات النميمة، حبيبتي وصديقاتها في ما تقوله الأفلاك، جارتي التي لا تتحدث العربية وما تعرفه عن الشرق، وأنا.
أنا ذلك الذي زرع حبة الفول في علبة القطن حين طلبت منه المعلمة في حصة العلوم دليلا على أنّ الله موجود، وحين خرج الأخضر من بياض العلبة أدرك أن الحياة ستنمو مثل عشبة، وستستمر.
أعود وأسأل كيف نما البحر في الاسم الذي لم يتعلم السباحة حتى غرق عشرين مرة، وفي كل مرة كانت شباك الصيادين تحمله واهمة بصيد ثمين؟ أجرّ الآن خيبتي نحو حتفها لأنتصب ألِفَاً ولأنتهي من دور عرّاب المواجع الذي وهبتني إياه الحياة. أيتها الحياة هاك استقالتي وابحثي عمن يجيد حزنك الكبير أما أنا فقد فرحت قليلا دون قصدي.
أنا ابن أمٍّ كثيرا تقمّرَ صدرُها من نار خبز الصاج، النار التي كانت تؤجّها كي ننضجَ نحن. ابن أمٍّ تجيد اللبن وتشارك الجارات في مواسم المؤنة، كأني الآن أشم رائحة العجين الذي يصنعن منه "الشعيرية" على عتبة باب "أم عبير".
أنا ابن أبٍ كفُّه الخشنة من تعب السنين ما تزال ناعمة، وقلقه الدائم على صغاره لم يفارقه، سوى أن صغارَه كبروا كثيرا لكنهم لم يغادروا دفء عشّه الأزلي.
كيف للشام أن تروّض وحشا فيجري مثل وعلٍ من أعالي قاسيون، الوعل هنا ربما معادل موضوعي للماعز التي تسكن روحي وتدعوني دائما لأتسلق الحجارة الوعرة، وربما بلغت يوما حكمتها واستطعت أن أعلّقَ الموت على أعلى قمة؛ فلا يستطيع النزول، فيما صرخة أبيه تملأ الوديان: "قاراغول كيف وصلت إلى هناك يا ولدي التّعيسَ؟".
أنا الريفيُّ الذي شذّبتِ المدينةُ ألوانَ ثيابه وظلّ في صميمه يعشق الألوان الفاقعة، ورائحة المزنة الأولى، وحكايا أبناء القُرى عن السعالي، وتدخين أعواد القش، والشامات، وصوت المزاريب، وما يزال يحنّ لصوت ماء (الخارور) في الأواني، ولفزعات الجيران في حملات تجهيز سطوح المنازل الطينية لفصل الشتاء الطويل.
أسمّي شامتَكِ الحنين فيما تعبرني الآن صورٌ متزاحمة أشعر حيالها كما لو أنّ عمري توقّف عند أول خطوة لي لقطع الحدود، وكل ما بعد ذلك يشبه إلى حدٍّ بعيد صالة سينما أنا جمهورها الوحيد، جمهورها الذي يحفظ المشَاهِدَ عن ظهرٍ عُمْرٍ، ويجهلُ الخاتمة.
(سورية)
أنا الريفي الذي في مواسم الحصاد يراقب هيبة المناجل ويسمع السنابل تصرخ به: كفّاك ماكرتان، وعقيم هو الموت، عقيم يفضحه ما ينهال منّا على التراب، ويفضحه المطر الجديد، عقيم يفضحه الحب في إغفاءة أنثى على ذراعك.
أنا الريفي الذي تناهبته البلادُ وما يزال يخبئ تحت أضلعه الطفولةَ، وكلما ضاقت عليه الجهات أخرج ما كانه من ولدٍ شقيٍّ يعبث بالماء الراكد في شوارع ذكرياته، أراني الآن حافيا في شتاء قديم، مبللا بالمطر والحنين والأغنيات.
"مرّينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل" ولأقبحُ الأصوات عند فراقكم صوتُ القطار، لا أحد في هذي المدن الباردة يعرف كيف يكون صوت القهوة حين تُدقُّ، ولا ما تفعله في الأرواح رائحة الهال، "يا ريل صيح بقهر صيحة حزن يا ريل"؛ كيف يمكن للعشب أن ينمو على سكك القطارات؟ أو ربما كيف لا ينمو والسكك الحديدية تئنّ من وقع الرحيل؟ هل تشعر أنك قطار؟ أو هل انتابك أنك محطة والقطارات والمسافرون والوداعات واللقاءات كلها تنمو أمام بابك الذي يطلقون عليه مجازا اسم "عينين"؟.
أنا الريفي ما زالت خطوط راحتيَّ تأملان بالتلاقي كي تنفي ما تقوّلته المنجمات عن استحالة أن نكون، وهنّ يثقن بأنهنّ كاذبات، وبأن ثمّة من يصدّق حديثهنّ، أمي وجاراتها في قهوة الصباح وجلسات النميمة، حبيبتي وصديقاتها في ما تقوله الأفلاك، جارتي التي لا تتحدث العربية وما تعرفه عن الشرق، وأنا.
أنا ذلك الذي زرع حبة الفول في علبة القطن حين طلبت منه المعلمة في حصة العلوم دليلا على أنّ الله موجود، وحين خرج الأخضر من بياض العلبة أدرك أن الحياة ستنمو مثل عشبة، وستستمر.
أعود وأسأل كيف نما البحر في الاسم الذي لم يتعلم السباحة حتى غرق عشرين مرة، وفي كل مرة كانت شباك الصيادين تحمله واهمة بصيد ثمين؟ أجرّ الآن خيبتي نحو حتفها لأنتصب ألِفَاً ولأنتهي من دور عرّاب المواجع الذي وهبتني إياه الحياة. أيتها الحياة هاك استقالتي وابحثي عمن يجيد حزنك الكبير أما أنا فقد فرحت قليلا دون قصدي.
أنا ابن أمٍّ كثيرا تقمّرَ صدرُها من نار خبز الصاج، النار التي كانت تؤجّها كي ننضجَ نحن. ابن أمٍّ تجيد اللبن وتشارك الجارات في مواسم المؤنة، كأني الآن أشم رائحة العجين الذي يصنعن منه "الشعيرية" على عتبة باب "أم عبير".
أنا ابن أبٍ كفُّه الخشنة من تعب السنين ما تزال ناعمة، وقلقه الدائم على صغاره لم يفارقه، سوى أن صغارَه كبروا كثيرا لكنهم لم يغادروا دفء عشّه الأزلي.
كيف للشام أن تروّض وحشا فيجري مثل وعلٍ من أعالي قاسيون، الوعل هنا ربما معادل موضوعي للماعز التي تسكن روحي وتدعوني دائما لأتسلق الحجارة الوعرة، وربما بلغت يوما حكمتها واستطعت أن أعلّقَ الموت على أعلى قمة؛ فلا يستطيع النزول، فيما صرخة أبيه تملأ الوديان: "قاراغول كيف وصلت إلى هناك يا ولدي التّعيسَ؟".
أنا الريفيُّ الذي شذّبتِ المدينةُ ألوانَ ثيابه وظلّ في صميمه يعشق الألوان الفاقعة، ورائحة المزنة الأولى، وحكايا أبناء القُرى عن السعالي، وتدخين أعواد القش، والشامات، وصوت المزاريب، وما يزال يحنّ لصوت ماء (الخارور) في الأواني، ولفزعات الجيران في حملات تجهيز سطوح المنازل الطينية لفصل الشتاء الطويل.
أسمّي شامتَكِ الحنين فيما تعبرني الآن صورٌ متزاحمة أشعر حيالها كما لو أنّ عمري توقّف عند أول خطوة لي لقطع الحدود، وكل ما بعد ذلك يشبه إلى حدٍّ بعيد صالة سينما أنا جمهورها الوحيد، جمهورها الذي يحفظ المشَاهِدَ عن ظهرٍ عُمْرٍ، ويجهلُ الخاتمة.
(سورية)