السيناريو الأكثر ترجيحاً

15 يونيو 2014

Sean Murphy

+ الخط -
لمهنة المحاماة خصوصية كبرى، كونها تتيح لمَن يزاولونها تماساً يومياً مباشراً مع أوجاع البشر وعذاباتهم، وتسمح لهم بالاطلاع على أدق التفاصيل المتعلقة بمصاعب حياتية، وبالتأمل في سلوكيات البشر، ونقاط ضعفهم، وحماقاتهم أحياناً، علاوة على أمراضهم النفسية والاجتماعية.
قبل سنوات، في أثناء عملي محامية ضمن برنامج محو الأمية القانونية للنساء، في منطقة شعبية في عمّان، جاءتني، في صباح ماطر، امرأة ثلاثينية تجر وراءها كومة أطفال، بثياب رثة وهيئة بائسة، لم يتجاوز أكبرهم عشر سنوات، كانت ملامحها حزينة جداً، وتعبّر عن عجز وحيرة. انخرطت المرأة في نوبة بكاء هستيري، حال جلوسها قبالتي، فيما كان صغارها يحاولون الالتصاق بها، وهم يتطلعون في أرجاء المكتب بارتياب وحذر. كانت آثار الضرب واضحةً على وجهها المتورّم، وعينها اليمنى المنتفخة، فيما الكدمات والرضوض بادية على ساعديها. أفادت تلك السيدة بأن زوجها عصبي جداً، وسريع الغضب (ويده والكف)، وأنها تعاني من هذا الوضع منذ أول أيام زواجها، لكنها وصلت إلى درجة تفوق قدرتها على الاحتمال، وأصبحت تخشى على حياتها، وأنها حائرة وتريد حلاً.
حاولت إقناعها بضرورة الحصول على تقرير طبيب شرعي، يثبت تعرضها للأذى، وبالتقدم بشكوى بحق زوجها، حتى ينال جزاءه المنصوص عليه قانوناً، غير أنها مانعت بشدة، خشية أن يرمي عليها يمين الطلاق، ما يعني أنها سوف تتشرد وأولادها في الشوارع، لأنها مقطوعة من شجرة. قدّمتُ لها المشورة القانونية اللازمة، وأوضحت لها، بتبسيط شديد، النصوص القانونية التي تحمي حقوقها، لكنها ظلت على موقفها. اقترحت عليها توسيط أحد أقاربه، ردت: إن أهله هم أصل البلى يا أستاذة! وعن الجيران، قالت إنهم يعرفون حالها، لكن، لا أحد يجرؤ على التدخل، لأنهم يعرفون كم هو "شرّاني"! لم أستغرب ردها، لأني أعرف، بحكم تجربتي، أن ثمة مَن يعتقد أن هذا الوضع طبيعي جداً، ومقبول جداً، ضمن بيئة غارقة في الجهل والتخلّف والفقر. وحين استنفدت جميع الوسائل المتاحة لمساعدتها، توصلتُ إلى أن المرأة ليست جادة في اتجاه اتخاذ أي إجراء قانوني، وأنها كانت فقط بحاجة للفضفضة. سألتها عمّا تنوي فعله، قالت باستسلام: لا شيء، سأذهب إلى أحد الشيوخ لكي يفك عنه الحجاب، لعله يعود إلى رشده، لأنه "مثل الله واحد، بنت عمه العانس حجبت له، لكي يكرهني وأولاده".
غادرتني المرأة مصحوبة بصغارها، ولم تعد.  
بعد تلك السنين، ما زلت أسأل: أين وصل الحال بتلك المرأة ذات الوجه المتورم؟ هل ما زالت حية ترزق؟ أم أن زوجها أزهق روحها، في سَورة غضب، فنالت راحتها إلى الأبد؟ ماذا حصل لأولئك الصغار الذين التصقوا مرعوبين بثوب أمهم في ذلك الصباح العماني الممطر؟ هل أتيحت لهم أي فرصة لعيش كريم وتعليم لائق، أم أنهم نزلاء في الإصلاحيات والسجون، والشهادات الوحيدة التي تمكنوا من الحصول عليها تفيد بأنهم أصحاب سوابق.
ذلك هو السيناريو الأكثر ترجيحاً، على ما أخشى.

 

دلالات
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.