السيلفي في سورية ... وثّق نفسك بنفسك

20 يونيو 2017
(على شواطئ اليونان، تصوير: إتيان دي مالغليف)
+ الخط -

يبدو أن ارتباط السيلفي بالتوثيق عند المستخدمين السوريين لوسائل التواصل الاجتماعي بات واضحًا، ولا سيما في صور السيلفي، حيث ترافقت نسبة كبيرة من صور السيلفي المنشورة مع عبارة "سيلفي والشيء الفلاني خلفي"، ليبدو الغرض من هذه الصور هو توثيق حياة المصوّر الشخصية ورحلاته وعلاقته بالمشاهير والشخصيات العامة والأماكن التي يزورها؛ وبذلك تتحول صور السيلفي لوثيقة معلنة نستطيع من خلالها تقصّي المعلومات ومعرفة اهتمامات الأشخاص الذين نرغب بمتابعتهم.

إن رغبة المهمشين السوريين، الذين أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي لهم المساحة الحرّة والمكان المناسب للتعبير عن أنفسهم كما يشاؤون، لم تتوقّف عند مشاركة صورهم ووثائقهم الشخصية مع أصدقائهم وذويهم، بل حاولوا الانتشار أكثر، ورغبوا في مشاركة صور السيلفي الخاصّة بهم مع أناس لا يعرفونهم من خلال إنشاء صفحات ومجموعات ومناسبات مختصة بنشر صور السيلفي للسوريين، مثل صفحة "سيلفي اللاذقية" التي حصدت خلال عامين 14118 إعجاباً، وتنشر يوميًا مشاركات جميع الراغبين بنشر صورهم، ومناسبة "سيلفي والـ...... خلفي" التي لبى دعوتها 13000 متصفّح، واهتم بها 22000 آخرون، والتي نادت السوريين لنشر جميع صور السيلفي التي يرغبون بنشرها في هذه المناسبة، مشترطةً أن يحددوا مكانهم والمعالم الطبيعية والمدنية والبشرية التي تشاركهم الكادر.

وتفاعل الناس في العالم الواقعي مع صور السيلفي للعالم الافتراضي يدل على اعتبارهم صور السيلفي المنشورة على صفحات "فيسبوك" قادرة على إعطاء صورة صادقة وذاتية عن السوريين، في الوقت الذي عجزت معظم الأشكال الفنية السائدة والمراكز الإعلامية والتقارير الصحافية عن التعبير عن المأساة السورية بنفس الصدق والعفوية، وقد يعتقد بعضهم أننا نبالغ إذا ما اعتبرنا صور السيلفي التي التقطها السوريون في السنين الأخيرة تستطيع أن تلخص حياة السوريين في زمن الحرب، بيد أن الصور التي التقطها اللاجئون السوريون لأنفسهم وهم يعبرون البحر والحدود الأوروبية استطاعت أن تثبت قدرتها وفعاليتها على التأثير بالآخرين بوقت قصير، حتى أصبحت الحديث الشاغل لأوروبا والعالم.


ومن الممكن أن ترسم قصّة رحلة البحر والهجرة إلى أوروبا من خلال متابعة صور السيلفي التي التقطها المهاجرون؛ فالتقارير التي تصوّر رحلة البحر ككارثة بشرية أغفلت في معظم الأحيان ابتسامة السوريين وحبهم للحياة الذي دفعهم للمخاطرة وإشارات النصر التي يرفعها السوريون وهم يلتقطون صور السيلفي الجماعية عند وصولهم إلى الشواطئ اليونانية؛ فانتصرت صور السيلفي على المراكز الإعلامية التي حذّرت من مخاطر الرحلة، واستطاعت أن تستقطب آلاف اللاجئين المتفائلين؛ وكذلك فإن الازدحام والتعب الواضح على ملتقطي صور السيلفي أمام الحدود المقدونية والصربية والهنغارية دفع الوافدين الجدد للبحث عن طرق جديدة للهجرة واللجوء للمهربين عبر الطيران بعد الوصول إلى الشواطئ اليونانية؛ وصور السيلفي التي يلتقطها السوريون يوميًا في المخيّمات الألمانية والأوروبية تعبر بشكل صادق عن حياتهم وسعادتهم ومعاناتهم، وبعد أن يمضي زمن ويشعرون بالاستقرار والأمان وربما الفراغ تبدأ صور السيلفي تتجه نحو الطبيعة الجميلة في أوروبا.

لذلك من الممكن أن نعتبر هذه الصور وثائق بصرية، سواءً كان المصور يقصد التوثيق أو أنه يتبع موجة السيلفي الرائجة دون وعي بأهمية توثيق اللحظة. وبالنسبة لفيديوهات السيلفي التي التقطت لتوثيق حدث ما أو حالة معينة، فيبدو أن عامل قصدية التوثيق حاضر بغالبيتها، ويعد عامل القصدية أهم عامل يميز فيديو السيلفي عن صور السيلفي كوثائق.

وبالإضافة لعنصر القصدية، فإن فيديو السيلفي التوثيقي يتميز عن باقي الوثائق البصرية بأمرين:

1- يتمتّع فيديو السيلفي بمصداقية مثله مثل باقي الفيديوهات غير الاحترافية بالنسبة للمتلقي، حيث إن اهتزاز الكاميرا والدقة المنخفضة توحي للمشاهد أن ما يحدث في الفيديو هو نقل دقيق للواقع دون دخول مؤثرات السينما الجمالية وخدعها البصرية في الفيديو؛ وعلاوةً على ذلك فإن وجود المصوّر داخل الكادر في فيديو السيلفي يعطي قيمة مضافة لمصداقية الفيديو، لأن المصوّر لم يعد مجهول الهوية، ولأن التلاعب بالكادر وما يحدث داخل الفيديو سيبدو صعبًا للغاية وأنت تشاهد صانع الفيلم أمامك على الشاشة.

2- إن شكل فيديو السيلفي يساعد المتلقي على إدراك انطباع ورأي مصور الفيلم، فهو لا يوثق الحدث أو المكان وحسب، بل يوثق تفاعل أشخاص من الهامش، غالبًا، مع هذا الحدث؛ فطرح مخرج الفيلم الوثائقي لرأيه بالمادة التي يوثقها ليس جديدًا بالفيلم الوثائقي، ولكنه كان يكتفي بعنصر الصوت المعقب على الحدث دون ظهوره بكادر الصورة غالبًا، ولكن هذا الرأي عادةً لا يوثق الانطباع الحي والمباشر على الحدث، لأنه قد يسجل بعد مدة زمنية، ولأنه إن كان متضمنًا لانطباع ما، فهو يكتفي بالتعبير من خلال نبرة الصوت، وهو عنصر أضعف بكثير من الحضور الجسدي الذي يؤمنه فيديو السيلفي.

وإذا ما اعتبرنا فعلًا أن فيديو السيلفي من الممكن أن يكون شكلًا من أشكال الفيلم الوثائقي، فإن ظهوره لم يأت مفاجئًا؛ فالفيلم الوثائقي الذي انحصر وجوده على المهرجانات في سورية والعالم العربي في زمن الصالات السينمائية، استطاع أن يستقطب المزيد من الجماهير بعد أن انتقلت السينما لكل بيت، ولا سيما بعد انتشار الديجيتال والقنوات المهتمة بالأفلام التسجيلية كـ"الناشيونال جوغرافيك"، وإن حددت هذه القنوات شكل الفيلم الوثائقي بمعايير معينة، إلا أنها أحد أهم العوامل التي ساهمت ببقاء هذا الفن متداولًا بسبب تمويلها لهذه الأفلام ونشرها جماهيريًا؛ وكذلك ساهم انتشار الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بإعطاء الدافع للهواة المهتمّين بالتصوير والذين لا يملكون الإمكانيات المادية وربما الفنية، فقاموا بتصوير الواقع من وجهة نظرهم فانتشرت الفيديوهات غير الاحترافية، ومنها فيديوهات السيلفي.

وفيديوهات السيلفي التوثيقية في سورية كانت غالبًا ما توثّق العمليات العسكرية والأضرار المباشرة للحرب السورية، ويعود السبب في ذلك إلى ازدياد انتشار الهواتف الذكيّة ذات الكاميرات الأمامية بالتزامن مع الثورة والحرب السورية؛ وهذه الفيديوهات لم ترتبط بتيار سياسي معين، وإن كان المعارضون هم السباقون لنشر هذا النوع من الفيديو، إلا أن أفراد المعارضة والنظام تشاركوا بإنتاج هذا النوع من الفيديو، كبارًا وصغارًا، مدنيين ومسلحين. وسنأخذ مثالين على هذا النوع من الفيديو، مثال من فيديوهات السيلفي التي صورتها المعارضة، ومثال من فيديوهات السيلفي التي صورها أحد عناصر جيش النظام.

في الفيديو الذي نشرته صفحة "للمسلمين فقط بلاد الشام"، فإن المصور المعارض يغتنم فرصة قصف النظام داريا ليقوم بتصوير فيديو سيلفي ليوثق هذا القصف المستمر منذ سنوات بطريقته الخاصة.

يبدأ الفيديو بلقطة للمصوّر وهو ينظر إلى الأعلى ليوثق منذ اللحظة الأولى حالة الترقّب التي يعيشونها، وبعدها يستطيع أن يحدد من خلال المراقبة الزاوية التي ستنفجر فيها القذيفة ويوجه الكاميرا على أساس ملاحظته الشخصية التي تبرهن أن السوريين أصبحوا خبراء عسكريين، ومن ثم يظهر بالكادر شخص آخر يصوّر المكان الذي يتعرّض للقصف، ويوثق بهذه اللقطة ظاهرة التصوير والتوثيق التي تمارسها الهوامش من خلال مثالين، المصور والشخص الذي يقف بجواره، وتبين أيضًا تأقلم الناس في داريا مع حالة الحرب فتواجد شخصين في هذا الكادر الضيق على السطح في هذه اللحظات يدل على تحول هذه الانفجارات والغارات لوضع طبيعي لا يعطل الناس ولا يرهبهم.

ثم يحدث الانفجار الذي صور الفيديو لتوثيقه أصلًا، ويتلوه بعض العبارات والتعقيبات من مصور الفيديو، حيث يقول "الله أكبر" ليحيلنا إلى خلفية إسلامية تتناسب مع شكل لحيته، ليجعلنا الفيديو نتساءل إن كانت الحرب في سورية هي فعلًا بين النظام والمسلمين المتطرفين، ويضيف بعد ذلك كلمة "داريا" ليوثق المكان الذي يحدث به هذا الحدث، ويتابع "قصف براميل متفجّرة" ليحدد نوع السلاح ويشرح مشهد الدخان الذي لا تزال آثاره واضحة بالخلفية، ويزيد بعدها "هيك عم يقصفونا كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة" ليبين المصوّر أن هذا الانفجار هو حالة يومية، وليؤكّد أن تصويره لهذا الفيديو كان بغرض توثيق أوضاع السوريين تحت الحصار العسكري، وبعد ذلك يوجه الكاميرا نحو صديقه الذي يقول: "ونحن عم نصور" ليؤكد طبيعة العلاقة بين الناس والحرب، وتحول التوثيق لفعل يومي يمارسه الجميع، وبعدها يعيد الكاميرا إلى اللقطة الأولى وينظر إلى الأعلى نفس النظرة التي بدأ بها الفيديو، محاولًا أن ينهي الفيديو من حيث بدأ بشكل يوحي وكأن ما حدث سيتكرّر، ليجعلنا نشعر للحظة أن الفيديو له بنية دائرية حيث ينتهي بنفس الطريقة التي بدأ فيها، وهو شكل تبدو فيه ملامح فنية؛ فالفيديو استطاع أن يوثق في 35 ثانية فقط حدث سقوط البراميل المتفجرة بطريقة تدمج بين الذاتية والموضوعية، وبصورة لا تخلو من الرؤية الفنية، المقصودة أو غير المقصودة.

وفي الفيديو الذي نشرته صفحة "ربيع كله وندي" التابعة للنظام السوري، يقوم عسكري من قوّات النظام بتصوير نفسه أمام راجمة الصواريخ، وعنوان الفيديو "سيلفي والراجمة خلفي"، فهو يوثق الطرف الآخر من المعركة.

يبدأ الفيديو بتحديد دقيق للمكان الذي يصور فيه "موقع متقدّم للجيش السوري في الريف الجنوبي لمدينة حلب"، وتدل الثياب العسكرية التي يرتديها على هويته، فهو جندي من قوّات النظام، والكادر شبه الثابت الذي يقف فيه يتيح لنا المجال لرؤية بعض الجنود عن بعد أمام راجمة الصواريخ، وسرعان ما يخبرنا بالحدث الذي سيوثقه: "ستقوم راجمة الصواريخ باستهداف جبهة النصرة في جنوب تلة العيس"، ويرفق الجملة بكلمة "دعونا ننتظر"، ليبين طبيعة تعاطي العسكر مع فعل التدمير كفعل مشوّق من الممكن أن يجذب انتباه كثير من الجماهير.

وعندما يصدح صوت الهاون بدلًا من صوت راجمة الصواريخ، يحاول في البداية أن يبرّر الخطأ التقني الذي حدث بالفيديو من خلال ادعائه أن الجيش يمهد للراجمة بالهاون، مما يترك لنا انطباعًا بأنه لا يرغب أن يتخلّى عن ثقته وثباته، ويوقف الفيديو برهةً من الوقت ويعود ليسخر بشكل أقوى وأكثر وحشية، حيث يسمّي الفيديو "هيدا اسمو سيلفي والراجمة خلفي"، وتظهر بعد ذلك على الشاشة عملية إطلاق راجمة الصواريخ لقذائفها بواقعية تامة، ليحقّق الفيديو بهذه اللحظة المطلوب منه بتوثيق كيفية عمل الراجمة وتعاطي العسكر معها من خلال محاولته ببدء العد، لتبين العلاقة الآلية والميكانيكية مع السلاح والدمار.

يوقف المونتاج العدّ ويعيدنا إلى صوت الهاون والتعقيبات على تداخل صوت الهاون وراجمة الصواريخ، وأهمها التعليقات الدينية "اللهم ثبت رميهم"، ومن ثم ينتهي الفيديو بحس ساخر وهو يقول: "اليوم بيكفي منكمللكن بعدين"، ليحافظ بالنهاية على عنصر التشويق ويعد جماهيره بالمزيد من الحلقات والفيديوهات.

إن هذين المقطعين قادران على رسم القصة من زاويتين مختلفتين للواقع، وتتقاطع بينهما عدة عوامل، أهمها العامل الديني، والعلاقة الوثيقة بالتطرّف الديني بما يحدث في سورية؛ كما أن الطرفين يبرزان العلاقة الوثيقة بين المهمّش والكاميرا ورغبة المهمشين بتوثيق اللحظات التاريخية التي يعيشونها، سواءً قرّروا أن يلعبوا دور الجلاد أو دور الضحيّة؛ كما توثق خبرة السوريين التي اكتسبوها من خلال الحرب بالتعاطي مع السلاح وإدراك أبعاده ومداه والتمييز الصوتي لسائر أنواع الأسلحة، وتبين هذه الفيديوهات اهتمام المهمّشين أيضًا بالتمركز حول الأنا ورغبتهم بإيصال رسائلهم بأنفسهم، ولهذا اختاروا شكل فيديو السيلفي.

 

المساهمون