السيطرة على قبائل سيناء... تطويع بالقوة لضمان الولاء للنظام الحاكم

09 مايو 2019
بدو سيناء في عيون موسى مطلع القرن العشرين (أرشيف-Getty)
+ الخط -
تضم شبه جزيرة سيناء 11 قبيلة من أشهرها الترابين والسواركة. وبالرغم من تحرير سيناء بالكامل من المحتل الإسرائيلي في الخامس والعشرين من إبريل عام 1982، واستعادة مصر السيطرة على حدودها الشرقية وتحديداً مدينة رفح بشمال سيناء وشرم الشيخ بجنوب سيناء، واستكمال الانسحاب الإسرائيلي من سيناء بعد احتلال دام 15 عاماً، "إلا أن اختلاط أهل سيناء الثقافي بالكيان الصهيوني يعدّ مدعاة لتنقية الثقافة في سيناء مما يكون قد أثّر فيها نتيجة احتلالها، وخاصة في ظل الدور الخفي للعناصر الأجنبية وتأثيرها على بعض العناصر الموجودة  والامتداد الطبيعي للعائلات، ما يعد تهديداً أمنياً وسبباً لفقدان الثقة بين رجل الشرطة والبدوي في سيناء"، وفق ما جاء في تقرير التوجه الاستراتيجي لتعمير وتنمية سيناء الصادر عام 2007، عن مركز معلومات محافظة شمال سيناء.

وبينما يعتبر التقرير، قبائل سيناء "صمام الأمان" البشري الذي لا ينبغي السماح بنزوحه أو تهجيره، يدين في الوقت ذاته "الاعتقاد الخطأ بأن جميع أرض سيناء ملك للقبائل"، ويؤكد أن "الأصل في ملكية سيناء للدولة إلا أن هناك حقوقاً لا نستطيع أن ننكرها لأهل سيناء"، وهو ما قد يعدّ مدخلاً مهماً لفهم سبب تعامل السلطات المصرية مع أهل سيناء، باعتبارهم "غير مؤهلين" لتملك الأرض التي ورثوها وتقاسموا ملكيتها. وهنا تشير هيلاري جيلبرت إلى محاولة أهالي سيناء صياغة هوية "بيئية" في مواجهة "المصرية"، في دراستها المنشورة في Nomadic People عام 2013، وإلى أن تعامل الحكومة المصرية مع أهالي سيناء إنما ينحصر في تطويعهم كـ "مادّة أولية" للمجتمع الصناعي، بتشغيلهم في المجال السياحي الخدمي أو التصنيعي، وهو التوجه الذي لم يختلف كثيراً حتى وقت الاحتلال الصهيوني، كما يرصده مارتين جلاسنر في دراسة نشرت عام 1974.


استقلال القبائل

دعم الترابط العضوي العابر الحدود، واقع استقلال القبائل عن منظومة الحكم السياسي حتى من قبل ظهور دولة 1952، وذاتية قوتها الاجتماعية والمادية والتنظيمية، من حيث مركزية الانتماء بالدم وسيادة قوانين الحماية الجماعية، والعقاب الداخلي وقوانين التقاضي كالوساطة والكفالة والدخالة (تسمى العطوة في فلسطين وتعني هدنة مؤقتة بين العشائر والقبائل)، والقصاص وفض المنازعات وتقسيم الأرض وتوزيع الأدوار القضائية والتنفيذية والتشريعية داخل وما بين القبائل، وهي مسائل تناولتها مؤلفات من بينها كتاب كلينتون بايلي الصادر عام 2009 بعنوان "قانون البدو في سيناء والنقب"، ودراسة "التعددية القضائية بين قبائل شمال سيناء: دراسة حالة دور الدولة والشريعة ومحاكم العرف في الصراع والتعاون"، التي أعدّتها مارا رافكين الباحثة بجامعة Yale عام 2014، وكذلك محاضرات لاري رويدر "كتيب المحاضرات عن قبائل البدو في سيناء" المنشور عام 2005.

وتوضح الحقائق السابقة أن العنصر القبلي كان عصياً على التطويع والقمع، وخاصة مع افتقار الدولة حتى وقت قريب، لآليات الرقابة ورصد معلومات الأفراد، وهو ما دفعها في البدء للاقتصار على ضمان الولاء السياسي العام بإصدار قانون تعيين المشايخ والعمد الصادر سنة 1978 الذي تم تعديله سنة 2018، ثم اقتطاع المزايا الاقتصادية وحرمان البدو من مكاسب "التنمية"، ثم التوسع في الاستثمارات السياحية بما أدى لتحول معطيات الاجتماع والكسب والثقافة والاقتصاد القبلي، وخاصة في جنوب سيناء كما تفصله دراسة هيلاري جيلبرت عام 2011، وبحسب الآليات التي رصدها الباحث إسماعيل الاسكندراني في معرض تفكيكه لصراعات "البيزنس" في سيناء، وصولاً لتفكيك مصادر القوة الجماعية والظهير الذي كان يساند "أفراد" القبائل في مواجهة الدولة بعد تفجيرات طابا ونويبع 2004، ثم مرحلة "تكسير العظام" بعد ثورة يناير 2011.


توتر علاقة الدولة بالقبائل

يؤكد مصدر مطلع عمل سابقاً في الجهاز الحكومي لمدينة العريش، أنه مع بدء العمليات العسكرية بشكل مكثف انتقلت علاقة القبائل بالحكم المركزي من التفاوض على نزع التسليح ومحاسبة المتورطين في الدم، مقابل العفو الكامل وإسقاط جميع الأحكام الصادرة غياباً على أهالي البدو في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، إلى مرحلة التوتر بعدما قامت السلطات الأمنية بتدمير المحيط الحيوي والطبيعي للقبائل.

وتزامن مع هذا تفعيل الدولة لآليات تفكيك الكيانات القبلية في المنطقة، التي يعد أبرزها تغيير موازين القوى الداخلية، إذ يشير عادل الأخرسي الإعلامي والباحث في الشأن السيناوي، لتبعات سعي الدولة لتوظيف شيوخ القبائل أمنياً ما أدى لتراجع مكانة بعضهم، واستبدال السنّ والمكانة بالتعاون الأمني كأسس لـ "شرعية" المشايخ المعينين، ما أدى في بعض الحالات لتقويض مركزية السلطة وتهميش الشيخ أو إهانته بين أهله بسبب تفضيله المكاسب المادّية على أمن أفراد القبيلة، ما أثر على وظيفة "مجلس القبيلة" أو "الديوان"، الذي كان يتشاور فيه رجال القبيلة للوصول إلى كلمة موحدة في العلاقات مع الكيانات الأخرى والدولة، كما أصبحت آليات العقاب الداخلي كـ "التشميس"، الذي يعني رفع حماية "القبيلة" عن أحد الأفراد وإلغاء كفالتها إياه، أداة في يد الحكومة لمعاقبة الأفراد، ما أدى لإثارة نوازع الثأر والكراهية بين أفراد القبيلة الواحدة.

وأضاف: "يعمد ممثلو السلطة إلى التأثير على كبار القبائل بالمال، والمكاسب السياسية كالوظائف والتعيينات ومخصصات التنمية والتعمير، كما أصبح بدو جنوب سيناء مقيدين بسوق العمل والأجور في المناطق السياحية، الذي تزامن مع انكماش أعمال الرعي والزراعة المنزلية التي كانت رائجة خلال السبعينيات، وكانت توفر اكتفاءً غذائياً لسكان المحافظة.

وعمدت السلطات إلى اللعب على توازنات القبائل الكبرى والصغرى في سيناء، استغلالاً لواقع تفرق القبائل لأصول وعادات وأنشطة اقتصادية وخصائص لغوية مختلفة، إلى جانب التنافس البيني وغياب القيادة القبلية الموحدة، كما ترصده دراسة تحليلية للصراع في سيناء، أعدّتها عفت إدريس عام 2017 في جامعة برمنغهام، وقد أدى ذلك لوقوف القبائل مشتتة أمام السلطات. وبدأ التفكك بتوظيف الترابين في مواجهة السواركة والإرميلات، كما يشير الناشط الحقوقي هيثم غنيم، ثم انتقل التلاعب على توازنات أطراف متنافسة على الوجاهة والنفوذ داخل القبيلة الواحدة، بإتاحة مساحات العمل المسلح وقيادة المليشيات المحلية والتكليف بإجراء التحقيقات، وإقامة الأكمنة والحواجز وتخويل سلطات التوقيف والاحتجاز والسيطرة الميدانية، وتحديد هوية العابرين بتمييز اللهجات والسمات البشرية لأهالي المنطقة، وكذلك التوظيف كـ "مناديب" وأدلّاء وجامعي معلومات، كما يضيف الأخرسي أخيراً، التمييز بتمليك الأراضي للبعض، كما يرصده عمر مصطفى في تقرير بعنوان "مصر تقنن ملكية أراضي سيناء انتقائياً" سنة 2018، وهو ما يضرب في صلب علاقات القبائل التي ارتسمت الحدود بينها بالدم.

وفي هذا السياق، تأتي أداة هامة لضرب القبائل الكبرى بالصغرى، وتأجيج قضايا "الشرف" و"الثأر" داخل وما بين القبائل، وكذلك توظيف مليشيات محلية عرفت باسم "مجموعة 103" أو "مجموعة الموت"، التي يفيد الأخرسي بأنها تشكلت من القبائل الصغيرة التي تعاني التهميش وضعف التأثير في محيط تسيطر عليه الكيانات الكبرى، فقامت المخابرات الحربية بتوظيفها وتوفير الأسلحة والامتيازات التي تمكنها من إنفاذ أوامر الاعتقال والتعذيب، وبهذا قوضت قانون الحماية الجماعية والعقاب الداخلي وسادت فوضوية الانتقام والعنف بين أفرع القبيلة الواحدة وأفراد القبائل المتنافسة.


تفكيك مجتمع القبائل

من الناحية القيمية، تأتي عمليات تفكيك مجتمع القبائل على وجهين؛ أولهما بتحطيم "الأعراف" البدوية، إذ يشير الأخرسي إلى قيام وزارة الداخلية بعد تفجيرات طابا ونويبع 2004-2005 بحملة اعتقال لنحو 3000-5000 سيناوي، بعضهم من أبناء القبائل لهم ميول سلفية، قائلاً: "كانت الاعتقالات تتم ليلاً ونهاراً في الشيخ زويد ورفح والعريش، باقتحام بيوت البدو وإهانة الرجال أمام نسائهم وأطفالهم ومداهمة غرف النوم والاطلاع على النساء وسرقة حليّهم وأغراضهم، وهي أمور لا يجرؤ عليها أهل البدو بين بعضهم البعض فضلاً عن الأغراب"، وكانت هذه من أشد الوقائع إضراراً بعلاقة المجتمع القبلي بالدولة ومؤسساتها الأمنية، ويروي نفس المصدر شيوع المقارنات بين تعامل وزارة الداخلية المصرية وإدارة الكيان الصهيوني للمنطقة، قائلاً: "يقارن الناس بين إدارة الاحتلال التي كانت تنادي الرجال من مداخل طرق المنازل، وتوفر خدمات التعليم والصحة بالإدارة المصرية التي تداهم النساء"، وبالرغم من المقارنة السابقة فإن الوقائع تثبت، تاريخياً، تصدي المقاومة الشعبية للاحتلال وتعاون القبائل مع الجيش المصري لاستعادة الأرض، كما تشير الأحداث على الأرض إلى كون السلطات المصرية هي المتعاونة مع الكيان الصهيوني، بإتاحة المجال الجوي لإسرائيل لاستهداف عناصر في سيناء وفق ما كشفته نيويورك تايمز وغيرها من الدوريات العالمية، وهو ما يبرر الاتهامات المقابلة للنظام المصري بالخيانة، وتوقعات عودة النفوذ الإسرائيلي في سيناء، في ظل استياء متزايد من التعامل الأمني مع الأهالي ومقارنته بإدارة الاحتلال الإسرائيلي للمنطقة، وهو خيط يسهل للمتابع التقاطه بين عشرات التقارير، مثل تقرير دونا ستيوارت في Middle East Policy Council.

والوجه الثاني لتفكيك القيم هو تقويض مفاهيم "الستر" و"الخصوصية" في تأسيس الأحياء السكنية ومحيطها الحركي، الذي يؤدي عرفاً وظيفة الحماية، فمخططات تسكين البدو التي تعلنها الدولة تحت مسمى "مشروعات تنمية سيناء"، تستهدف حشر القبائل في منازل ضيقة مكشوفة ومرصودة من مختلف الجهات، تتصل بشبكات النقل والطرق بما يعني انتقال المعارف والأغراب، شاملاً قوات الأمن منها وإليها بسلاسة، ويحدد فيها مسار التحرك البشري واتجاهاته، بينما تجرم إنشاء السراديب والممرات الواصلة بين البيوت لمزاعم أمنية رغم أداء تلك الممرات وظائف حيوية لنساء البدو اللاتي تحدد الأعراف درجة "انكشافهن" للأغراب، بينما تحتفي وسائل الإعلام المصرية بـ توظيف نساء البدو في إرشاد السائحات، وهو ما يمثل تحولاً كبيراً في علاقة النساء بالمجتمع، اضطراراً للكسب في ظل تراجع الدور الإنتاجي للزراعة والرعي بسبب توجه الدولة للتنمية "السياحية"، وما يليها من تغيرات في منظومة العمل والقيم والكسب، بدلاً من تطوير الأنشطة الطبيعية الملائمة لسكان المنطقة.