تخشى منظمات المجتمع المدني المصرية، بدءاً من المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان، وليس انتهاء بتلك المطالبة بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية، أن هامش الحرية المحدود قد يختفي وأن السلطات على وشك إسكاتها.
المنظمات التي كانت تعاني من التهميش إبان فترة حكم الرئيس المستبد، حسني مبارك، كانت، مع ذلك، قادرة حينها على العمل. لكن حكومة الرئيس، عبد الفتاح السيسي، أمرت المنظمات غير الحكومية الالتزم بالتعليمات التي تمنح الدولة سلطة كاسحة على نشاطاتها وتمويلها وتهددها بالملاحقة القضائية إن هي أقدمت على مخالفة التعليمات المبهمة بما "يمس الأمن القومي" أو "التأثير في الآداب العامة".
وما زاد من المخاوف، تعديل السيسي الشهر الماضي قانون العقوبات لفرض عقوبة السجن مدى الحياة على أي شخص يطلب أو يتلقى تمويلاً من الخارج بهدف "الإضرار بالمصالح القومية". وتحذر العديد من جماعات حقوق الإنسان وغيرها من المنظمات الأهلية غير الحكومية، والتي تتلقى أغلبها تمويلاً دوليّاً، بأن الصياغة الموسعة هذه قد تستخدم ضدهم.
وكانت منظمات المجتمع المدني في مصر قد أملت في أن ثورة 25 يناير 2011 التي أطاحت حكم مبارك، سوف تمنحهم حرية أكبر في العمل، ومع ذلك، كرر السيسي القول، بأنه يرغب في تحقيق المزيد من الديمقراطية وإن الحريات والحقوق يجب أن لا يسمح لها بتقويض هدفه في تحقيق الاستقرار في البلد الذي يعاني من الاضطرابات.
وكان السيسي، قائد الجيش السابق، قد أزاح الرئيس الإسلامي المنتخب، محمد مرسي، العام الماضي وأطلق حملة قمع ضد الإسلاميين توسعت لتشمل الكثير من منتقدي الحكومة.
وأثيرت المخاوف التي تنتاب المنظمات غير الحكومية عندما أمرت بالتسجيل بحلول العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل بموجب قانون يعود إلى عهد مبارك ينظم عمل هذه المنظمات. القانون يمنح الحكومة والمؤسسات الأمنية سلطات واسعة على قرارات ونشاطات وتمويل هذه المنظمات. كما يحظر عليها القيام بنشاطات تؤثر في "الآداب العامة، أو النظام العام أو الوحدة الوطنية"، وهي مصطلحات غامضة فضفاضة قد تستخدم لوقف عمل العديد من المنظمات غير الحكومية وخصوصاً تلك المعنية بحقوق الإنسان.
وقال محمد زارع، مدير برنامج مصر فى معهد القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، إن العمل بموجب القانون الحالي مستحيل. هذه المهلة في جوهرها محاولة لإغلاق المجال العام في مصر. السلطة الحالية تظهر أنها تفتقر إلى أي تسامح مع الأصوات الناقدة".
وفي السابق، اختارت كثير من المنظمات تسجيل نفسها كشركات أو مؤسسات قانونية بدلا من مسمى منظمات المجتمع المدني لتجنب القيود التي يفرضها القانون، في حين حاولت منظمات أخرى التسجيل بالمسمى الحقيقي لكنها لم تتلق أي رد، وعملت على أي حال.
من جانبها، غضت حكومة مبارك إلى حد كبير عينيها عن المنظمات، في سياسة كانت تهدف على ما يبدو إلى إبقاء هذه المنظمات تحت تهديد مستمر لتحجيمها والتأثير على حركتها.
غير أن الإعلان عن الموعد النهائي لتسجيل منظمات المجتمع المدني في صحيفة تديرها الدولة وضع نهاية لهذا التسامح النسبي.
بدوره، قال محمد لطفي، رئيس منظمة جديدة تسمى (اللجنة المصرية للحقوق والحريات): "أعتقد أن الجميع يتوقع نوعاً من الهجوم بحلول العاشر من نوفمبر".
وتصدر هذه المنظمة تقارير عن قضايا الحقوق الاقتصادية مثل ارتفاع الأسعار وعمليات الطرد والإخلاء. وانتقلت المنظمة إلى مقر جديد قبل ثلاثة أسابيع ومعظم الكراسي والأثاث مغطى بأغلفة بلاستيكية.
وقرر لطفي تسجيل منظمته وفقاً القانون الحالي، وهو اختيار يقول، إنه صعب، لكنه يوفر بعض إجراءات الحماية لناشطي المنظمة البالغ عددهم عشرون فرداً.
ومنذ إطاحة مبارك، خططت الحكومات المتعاقبة لتشريع جديد ينظم عمل المنظمات بدلا من قانون مبارك.
وأثار مشروع قانون قدم في يونيو/حزيران قلق منظمات كثيرة، حيث منح أجهزة الأمن سلطات أوسع، فيما يتعلق بالإشراف على تمويل المنظمات وأنشطتها، وفرض عقوبات أشد من بينها السجن لعدم الامتثال للقانون.
ودافعت وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي عن الموعد النهائي للتسجيل باعتباره تطبيقاً للقانون. وقالت لقناة سي بي سي المصرية الخاصة "المراجعة الدورية ليست كافية. ينبغي أن تعلن المنظمات أنشطتها كافة أمام المجتمع، لكي يتمكن من مراقبة أنشطتها المدنية".
وأضافت أن "الضجة بشأن الموعد النهائي تصدر من جانب عدد صغير من المنظمات".
ومن المرجح أن تكون المنظمات الحقوقية الأكثر عرضة للقمع، لكن منظمات أخرى قد تواجه مشكلات. فعلى سبيل المثال، يحظر مشروع القانون الحالي الاستطلاعات والتركيز على مناقشات المنظمة والأدوات التي تستخدمها لتطوير مشروعاتها.
ومنذ قيام ثورة يناير، أصبحت الحكومة "أكثر ارتياباً حيال دور المجتمع المدني"، حسبما أفاد زارع. "ترى الحكومة المجتمع المدني كشيء لديه قدرة هائلة على فتح المجال العام الذي تريد إغلاقه".
وبحسب منظمات حقوقية، فإن جزءاً من المشكلة، هو نظرة الحكومة الى دور منظمات المجتمع المدني. ففي ندوة عقدت أخيراً في القاهرة، قال وزير التضامن الاجتماعي السابق، أحمد البرعي، إنه ينبغي أن تعمل منظمات المجتمع المدني بما يعزز سياسات الحكومة. "الغرض من منظمات المجتمع المدني، هو مساعدة الحكومة، فيما لم تتمكن من إنجازه".
وخلال العام السابق، قتل أكثر من ألف شخص من أنصار مرسي واعتقل أكثر من 20 ألف آخرين في حملة قمع شديدة.
ليس هذا فحسب، فقد صدرت أحكام بالسجن فترات طويلة ضد ناشطين سياسيين غير إسلاميين بموجب قانون يحظر التظاهرات كافة من دون موافقة الشرطة.
وتؤيد وسائل الإعلام إلى حد كبير السيسي، وسط مناخ غالباً ما يخرس أي صوت معارض ومنتقد للرئيس وحكومته. وتشوه وسائل الإعلام بشكل منتظم المنظمات الحقوقية باعتبارها مؤسسات لا تتواصل مع الجماهير أو أنها تضم جواسيس ومخربين، على حد قولها.
يشار إلى أن منظمة "هيومان رايتس ووتش" الحقوقية التي تتخذ من نيويورك مقراً لها والتي حاولت على مدى ست سنوات التسجيل داخل مصر، أغلقت مكاتبها في القاهرة في وقت سابق هذا العام، خوفاً من أن تطالها حملة القمع.
وفي أغسطس/آب، احتجز مديرها التنفيذي كينيث روث والمديرة الإقليمية للمنظمة، ساره ليا ويتسن، في مطار القاهرة وتم ترحيلهما عندما حاولا الدخول لإصدار تقرير جديد اتهم الحكومة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
وفي هذا السياق، قال روث: "هذه هي المرة الأولى التي تمنع فيها هيومان رايتس ووتش من دخول مصر".
وفي ديسمبر 2011، داهمت الشرطة مقار منظمات دولية، بينها "فريدم هاوس" والمعهد الديمقراطي الوطني والمعهد الجمهوري الدولي. وأدين ثلاثة وأربعون من طواقم هذه المنظمات، بينهم سبعة عشر أميركيا، بالعمل بشكل غير قانوني وتلقي تمويل أجنبي. وغادر الكثيرون بالفعل مصر، فيما صدرت أحكام مع إيقاف التنفيذ لمن بقوا منهم في البلاد.
وتقول مديرة منظمة" فريدم هاوس" الأميركية آنذاك، نانسي عقيل، التي صدر ضدها حكم غيابي بالسجن خمس سنوات، إن الحكومة منذ إطاحة مبارك لم تختلف بشكل يذكر في نهجها حيال المجتمع المدني.
وأضافت "رؤساء الدولة والحكومات يتغيرون، لكن البيروقراطية، لاسيما أولئك الذين يعملون بالفعل ويصيغون القوانين، لم يتغيروا. إنهم الأشخاص أنفسهم".