السيد الشحاذ

12 يناير 2016
+ الخط -
ما الضير أن أكون شحاذاً ما دمت سيداً؟ هذا الفرق ردمته حكومتي الرشيدة، أخيراً، وأقنعتني أن لا فرق بين التسول بثوب مهترئ، أو ببذلة سموكن. 
عموماً، أعترف بأنني ظللت، حتى وقت متأخر، أتحرّج من كوني متسوّلاً، مثلما أعترف، كذلك، بأن حبّات العرق لم تزل تتصبّب من جبهتي، كلما ارتديت ثوب الشحاذة، المخصّص لاستدرار عواطف المارّة، ودفعهم إلى مدّ أيديهم في جيوبهم، وإخراج ما تجود به أنفسهم.
أيضاً، أعترف، بأن التسوّل لم يكن جداراً أخيراً أستند إليه، بقدر ما كان خياراً حرّاً، لجأت إليه بمحض إرادتي، بعد أن اكتشفت بأنني ملزم بدفع حزمة (إتاوات) تحت مسمى (ضرائب) لحكومتي الرشيدة، عن كل ورقةٍ نقدية أنتزعها من أضراس الحياة القاسية، بمعنى أنه كان يتعين علي أن أنفق على حكومتي، بوصفها من قائمة (الولايا)، بل هي (الوليّة) ذات النصيب الأكبر، لأن الإنفاق عليها لا يقتصر على (العيديّات)، والمناسبات السنوية فقط، بل كانت تشاركني راتبي وقائمة فواتيري الشهرية واليومية، تحت بنود شتى، تتناسل كالأرانب، مثل (ضريبة المبيعات)، ورسم (دورة المياه)، و(رسم التلفاز)، حتى لو لم أقتن تلفازا في حياتي.
في رحلة التسوّل الأولى، كان يطاردني وجه أستاذ اللغة العربية الذي ترك أثراً عميقاً في نفسي، خصوصاً لدى شرحه درساً عن عيوب التسوّل، ولم أزل أذكر جبهته العريضة، وهو يشرح بصوت جهوري: "اليد العليا خير من اليد السفلى"، ولا أدري لماذا شعرت بأنه يطاردني عبر الحواري والأزقة؛ ليلقنني درساً بعصاه الطويلة. لكن، سرعان ما وأدت هذا الشعور عند أول قطعة نقدية حصلت عليها، بفضل حكومتي كذلك، التي علمتني أن (اليد الطويلة خير من القصيرة).
لن أطيل عليكم. لكن، لا بد من العروج على منعطف مهم في رحلتي الأثيرة مع التسوّل، فلعلكم تمتلكون فكرة عن الأدوات والحيل المستخدمة في عمليات التسول، وما أكثرها، بدءاً بالكراسي المتحركة، مروراً بالأطراف الصناعية، وليس انتهاء بالأطفال المستأجرين من ذويهم لهذه الغاية، لقاء مبلغ مالي متفق عليه مسبقاً، وأرجو أن تتنبّهوا لهذه النقطة، حصراً، لأنها السبب الحقيقي الذي دفعني للهجرة من بلدي بعدما ضاقت عليّ سبل التسول جميعها.
أقول ضاقت علي السبل، لأن حكومتي الرشيدة التي كانت تدّعي الأخلاق طاردتني من رصيف إلى آخر، خلال رحلة التسول، تحت ذرائع شتى، ووضعت قوانين وتشريعات عدة، لسد المنافذ في وجهي، ليس من باب الحفاظ على (علياء يدي)، كما تدّعي، بل لأن المال الذي كنت أحصل عليه لم يكن خاضعاً لحزمة ضرائبها، وأراهنكم بأنها لو كانت تعلم مقدار دخلي، لسمحت لي بالتسول.
أما لماذا اخترت الهجرة، والتسوّل في بلاد الغرب، فلهذا قصة أخرى، قبل ذلك، كانت حكومتي تتسوّل، تحت بنود عدة، تتخذ تعابير أنيقة، لتغليف (الشحاذة)، من قبيل (المساعدات)، (المنح)، و(القروض). لكن، مع تدفق اللاجئين، وجدت حكومتي أن الفرصة لاحت لتحطيم ذلك الغلاف الهش، فراح أعضاؤها يردّدون أسطوانة (عبء اللاجئين السوريين) يومياً، لاستدرار عطف المجتمع الدولي، كما راحوا يجوبون العالم، بربطات العنق وبذلات السموكن، ليعقدوا المؤتمرات الصحافية، ولم يتورّعوا عن مدّ أيديهم طلباً للمساعدة، ولا أدري لماذا كنت ألمح مع كل واحد منهم شبح طفل سوري، بوصفه من أدوات التسول التي كنا، نحن المتسولين، نستخدم مثلها.
وبعد أن تكرّرت مشاهد التسوّل الحكومي أمامي، قرّرت أنا المتسوّل أن أحذو حذوها، وهكذا استأجرت طفلاً سورياً، وسافرت إلى بلاد الغرب، من باب التجديد الذي تعلمته من حكومتي.
وها أنا الآن، أجوب العواصم الغربية برفقة الطفل السوري، وكلّي ثقة بأن الإنتربول الدولي لن يلقي القبض علي، لأنني غدوت السيد الشحاذ.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.