السياسات الاقتصادية الغربية لتحرير المرأة
في البلدان العربيّة ومعظم ما يعرف بالدول النامية، يبدو الحديث عن المرأة أقرب إلى الترف الحقوقيّ، وتحديدا إذا ما تحدّثنا عن وضعيّتها الاقتصاديّة، حيث أنّنا بلدانٌ تعاني نسبة متفاقمة من البطالة، عامّة، ونسبًا مرتفعة من الفقر، الأمر الذي يجعل المرأة وحقوقها قضيّة غربيّة بالأساس، تتبنّاها الدول التي تعطي انطباعا بأنّها الأكثر ضمانا لحقوق الإنسان ورفاهيّته والتي تأخذ من هذا المنطلق دور الوصيّ، الذي يقرّر للدول العربيّة سياساتها التي من خلالها يمكن إنقاذ المرأة.
من الملاحَظِ، أن هذه الدول لم تستطع من خلال التلميع الإعلاميّ والثقافيّ والسياسيّ، التضليل عن الجانب الاستعماري في السياسة الاقتصاديّة العالمية التي تمثّلها وتقودها، إلّا أنّ تخصيص هذه السياسات لهامش من الاهتمام ومن الهبات والقروض لتحسين وضعيّة المرأة، عامّة، يطرحُ عادةً على أنّه الجانب المشرق في السياسة الاقتصاديّة الرأسمالية، وفي أحيانٍ أقلّ تفاؤلا يروّج على أنّه تعويض لما تكرّسه السياسات الاقتصادية العالمية من استغلال واستعبادٍ في بعض المناطق.
من خلال هذا المقال، سنحاول تسليط الضوء على الوضعيّة الاقتصاديّة للمرأة وعلاقتها بالسياسة الغربيّة ومساعداتِها المتعلقة بالمرأة في تونس كأحد النماذج المقدّمة على أنها الأكثر تمثيلا لما يُعرف بتحرّر المرأة في المنطقة:
عرفت تونس منذ الاستقلال في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي دعواتٍ قادها نظام بورقيبة، لتغيير النمط الاجتماعي والقانوني، الذي كانت تعيشه المرأة قبل الاستعمار والذي يتمثّل في مزيج من الحضارة الإسلامية وما تعلّق بها من أعرافٍ عربيّة وغربيّة أيضا.
وقد ساهمت هذه الدعوات التي قُدّمت على أنها دعوات "تحرّر"، من خلال الإشراف الرئاسي المباشر والدعم الخارجي، في إنتاج نمط مجتمعي جديد يقبل بخروج المرأة للعمل وبنزعها حجابها والأهمّ أنه يلغي كلّ الفروق الإيجابيّة بين دور المرأة والرجل في المجتمع وبين واجباتهما وحقوقهما؛ الأمر الذي جعل أعدادًا هائلة من النساء تلتحق بصفوف الباحثين عن عمل لإعالة عائلاتهنّ، ولكنّ المميّز في هذه الأعداد، أنّها كانت يدا عاملة أميّة وقابلة للاضطهاد، حيث تفاقمت نسبة الأميّة في صفوف النساء سنوات الاستعمار (أو ما عرف بالحماية الفرنسية) ليصل إلى أضعاف نسبة الأميّة في صفوف الرجال، وبالمثل في ما يتعلّق بنسب تعرّضها للعنف العائلي وحرمانها من حقوقها الطبيعيّة.
ورغم الشعارات، التي كانت تتبناها السلطة بإيعاز خارجي، إلا أن التغيير الثقافي حاز النصيب الأكبر من هذه الإعانات والسياسات مقارنة بما رُصِد للنهوض الفعلي بالمرأة ولتحسين وضعيّتها؛ فبينما كان عدد المدارس صغيرا للغاية وبينما كانت الأخيرة تبعد عن الأحياء السكنية عشرات الكيلومترات، ممّا يصعّب عملية الوصول إليها، خاصّة في مجتمع فقير ما زال يحاول التعافي من مخلّفات الاستعمار، كانت المصانع الأوروبيّة منتشرة وملاصقة للتجمعات السكنية بشكل كبير، حيث، ومع بداية ظهور بوادر أزمة السبعينيات، تحديدا سنة 1972، وقّعت تونس مع الاتحاد الأوروبي نصّ قانون يقضي بتسهيل هجرة شركات النسيج والملابس الأوروبيّة المعدّة كليا للتصدير، والتي توفّرت لها بمقتضى القانون تسهيلات تخدم صالح المستثمرين على حساب اليدّ العاملة البخسة التي وفّرتها السلطة التونسيّة.
وقد تواصل هذا الاستغلال طيلة عقود من الزمن؛ وحتى سنة 2014 وبحسب التقارير الرسمية، لا يزال قطاع النسيج يشغّل أكثر من ثلث إجمالي اليد العاملة في قطاع الصناعة في تونس (35.7 بالمائة)؛ 86 بالمائة من هذه الأيدي العاملات هنّ نساء مضطهدات ومحرومات من أيّ رقابة حكوميّة على ظروف عملهنّ المزرية: عقود عمل مرنة بغير اللغة العربية مستغلّة لأمّيتهنّ ولا تضمن أيّ حقّ للعاملة، أجور بخسة، أكثر من 9 ساعات عمل يومي دون احتساب الساعات الإضافيّة، وضعيات عمل تفتقر لأبسط مقوّمات الكرامة تصل إلى غياب قاعات الأكل في معامل واقعها أقرب للقبو منه لمكان العمل، غياب الرعاية الصحّية والاجتماعيّة في الوقت الذي تمثّل 42 بالمائة من العاملات في قطاع النسيج المعيلات الوحيدات لعائلاتهنّ التي تضمّ في المعدّل 5 أشخاص.
من الجدير الإشارة أيضا إلى أنّ التبعات المباشرة للاتّفاقيّات الخارجية على المرأة العاملة في قطاع الصناعة، والتي لا تقتصر فقط على قطاع النسيج كأحد الأمثلة الأكثر التصاقا بواقع التونسيّين، كانت فادحة إلى درجة بعيدة . إلّا أنّ التبعات غير المباشرة لهذه السياسات على المرأة العاملة في قطاع الفلاحة، كانت الأخطر والأكثر اضطهادا على الإطلاق.
وحيث صبّت السياسة المحليّة اهتمامها لتطوير قطاعي السياحة والخدمات، من خلال اتّفاقيّات الشراكة والمشاريع السياحيّة ،عرف قطاعُ الفلاحة تهميشا فادحا، عمّقته الاتفاقيّة الأميركية التي تسبّبت في خسارة تونس لمخزونها من بذور الحبوب المتجدّدة والاتفاقيات المتعلّقة بالأراضي الدوليّة، التي ساهمت في خسارة مساحات واسعة من الأراضي الفلاحيّة المتروكة، الأمرُ الذي دفع الغالبيّة من الشباب إلى هجر القطاع والالتحاق بصفوف العاملين في قطاع السياحة والخدمات، في ما عرف بالهجرة الداخلية. وحيثُ أنّ قطاع الفلاحة موكُول إليه تغطية أكثر من 80 بالمائة من الحاجيات الغذائية للبلد (إلى حدود سنة 2014)، فإنّ اليد العاملة الرجّاليّة المهاجرة والتي رفضت العمل في ظروف بائسة قد عُوّضت بيد عاملة نسائيّة، غير مدفوعة الأجر في عمومها، لإنقاذ قطاع بدائيّ البناء والإنتاج.
وفيما تمثّل المرأة الريفية أكثر من ثلث مجموع النساء في تونس (35 بالمائة)، فإنه ضمن الآلاف المؤلّفة من العاملات في قطاع الفلاحة، 19.2 بالمائة فقط منهنّ يتحصّلن على أجر لقاء عملهنّ. وهذا الأجر يمثّل خمُس الأجر الذي يتحصّل عليه الرجل مقابل نفس العمل، حيث تصل أجور النساء اليوميّة إلى دولار ودولارين في حالات أحسن.
وقد حازت المرأة الريفيّة، خاصّة بعد الثورة، حيّزا إعلاميّا وسياسيّا، أكبر من العادة، من الاهتمام، الأمر الذي شرعن تدفّق مئات المليارات من الإعانات والهبات للنهوض بواقع المرأة في تونس وتحديدا المرأة الريفيّة. ولكنّ المثير للانتباه، أنّ أقلّ من 10 بالمائة من هذه الهبات، قد خصّصت للنهوض بالوضعيّة الاقتصاديّة للمرأة من خلال التأطير والتدريب وبعث المشاريع الصغيرة، بينما انصبّت الهبات لدعم تغيير الواقع الثقافي والقانوني، الذي لم يكن إلّا امتدادا لذات الواقع الذي عرفته المرأة في تونس قبل الثورة (للمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة التقرير الوطني:"واقع النوع الاجتماعي في تونس").
ولعلّ أهمّ هذه الإنجازات غالية الكلفة، والتي قُدّمت على أنها حلّ للمرأة الريفيّة، كانت الدعوة للمساواة بين المرأة والرجل في الميراث، كأحد البنود المضافة لاتفاقية سيداو والتي رفضت تونس في ما قبل أن تقبلها، وكأحد النماذج التي تجسّد البون الشاسع بين واقع المرأة في تونس وبين الحلول الخارجيّة المقدّمة، والمفروضة بقوّة الدَيْن الخارجي.
تعيش المرأة في ما يعرف بالعالم النامي عامّة، وفي تونس تحديدا، وضعيّة اقتصاديّة بائسة، جزءٌ من المسؤوليّة فيها متعلّق بالسياسات التي تنتهجها السلطة، وجزءٌ آخر متعلّق بالسياسات الغربيّة التي تتبنّاها السلطة، والتي تثقل كاهل معظم هذه الدول بالديون والهبات المقدّمة لتغيير الواقع الثقافي والحضاري للمرأة، الأمر الذي يجعل المرأة تضطرّ، إضافة إلى وضعيّتها البائسة، إلى تحمّل مسؤوليّةٍ معنويّة بسبب هذه الهبات أمام المجتمع.
ورغم عجز هذه السياسات طيلة عقود عن التغيير في وضعية المرأة، إلّا أنّ محاولة البتّ في مدى صلاح هذه السياسات ومدى نجاعتها في تغيير واقع المرأة يبدو أمرا غير مقبول، بل تتمتّع هذه السياسات في بعض الدول كما في تونس بشيء من القداسة النخبوية.
ولكن الواقع البائس، الذي تعيشه المرأة منذ عقود متتالية رغم دعوات تحرير المرأة، يعطي شرعيّة لا محدودة للتساؤل حول السياسات الغربية المنتهجة لتحرير المرأة النامية: هل هي فعليا المشكل أم الحلّ؟