السوريون والانتظار

27 سبتمبر 2014
+ الخط -

الانتظار أحد أهم السمات في حياة السوريين الحالية، فعشرة ملايين نازح ولاجئ ينتظرون اليوم انفراج أحوالهم، وأهالي أكثر من مئتي ألف معتقل ومخطوف ومفقود ينتظرون أبناءهم وبناتهم، الذين يلفهم المجهول باحتمالاته القاسية!

في الظلام، ينتظر السوريون عودة الكهرباء، ساعات طويلة كل يوم، وينتظرون معها عودة المياه، وينتظرون عودة الاتصالات، ينتظرون على الحواجز التي تتحكم بحياتهم وتمزّقها، ينتظرون عبور أبنائهم الحدود البرية أو البحرية، هاربين من بلدهم الذي كان عزيزاً عليهم، ينتظرون نشرات الأخبار، لعلّها تأتي لهم بخبرٍ ما، يخفف من معاناتهم، ينتظرون الراتب الذي لا يزال غائباً منذ أشهر، ينتظرون مندوب جمعية الإغاثة، لعلّه يساعدهم، ينتظرون الحوالة المالية التي يعينهم بها أحد أفراد عائلتهم المغترب.. ينتظرون دائما..
 
ينتظر أهالي المتطوعين والمقاتلين أبناءهم، ويتوجسون من أية تلميحة، أو أي خبر، أو أية اشارة، إلى غموض وضع الغائبين على خط النار، مع هذه الجهة أو تلك، ينتظر المعتقلون لحظة التنفس، وينتظرون، بشوق كبير، لحظة الإفراج عنهم، التي تروح وتجيء، تقترب وتبتعد مثل احتمالات الزلزال المتموج، زلزال مصيرهم الذي يضطرب كل لحظة.

مرة ينذر باستمرار الخنق في الأقبية الأمنية المظلمة، ومرة بالإفراج ومرة.. ومرة.. وكل مرة أكثر تقلباً وقسوة من المرة التي سبقتها!

قبل نصف قرن، كان السوريون ينتظرون تصفية العسكر لبعضهم، والخلاص منهم دفعة واحدة، وبعدها قضوا عشر سنوات ينتظرون انقلاباً يطيح بحافظ أسد، ولما يئسوا ظلوا عشرين سنة ينتظرون الفرج بموته، وكاد الانتظار أن ينتهي، وأن تبدأ الحياة من جديد، إلا أن أجهزة الأمن والجيش ومافيات النهب رتبت الأمور بشكل محكم، على مسرح الانتظار السوري الكبير، صار الانتظار بعدها، يشمل كل السوريين، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم ومتوسطهم وفقيرهم. الكل ينتظر، اليوم، لحظة الخلاص التي تبدو بعيدة.

قبل أن يُجهّز مسرح الانتظار الهائل، الذي يتموج بكل المفاجآت غير المتوقعة، قضى السوريون عقداً من الزمن، وهم ينتظرون إصلاحات بشار التي أقسم عليها في بداية حكمه. وفي كل مرة، كان يضطر لتغيير اسم الإصلاح، من إصلاح سياسي، كما وعد، عندما كان متراجفاً في حضرة نائبه عبد الحليم خدام، في قاعة ما يسمى مجلس الشعب، إلى إصلاح اقتصادي لا بد منه مقدمة للإصلاح السياسي المزعوم، وبعدها انتظروا ثلاث سنوات، ريثما غيّر اسم الإصلاح إلى إصلاح إداري، هو المقدمة الضرورية للإصلاح الاقتصادي، الذي سيليه الإصلاح السياسي، وأحضر معه طاقماً فرنسياً من الإداريين، لكنهم بدوا حينها، كأنهم جُلبوا من مسرح الكوميدي دي فرانس، أو من تياترو الطاحونة الحمراء الباريسي.

فاصل الاستراحة من الانتظار، الفاصل الكبير والوحيد، الذي عاشه السوريون هو فاصل الاحتجاجات السلمية، خرجوا فيها شيباً وشباناً وأطفالاً، إلى كل الساحات السورية. هجر السوريون قبور انتظارهم، وهبّوا إلى الشوارع، مطالبين بإعادة أعمارهم وطموحاتهم، التي حطمها الانتظار والتحليلات الكاذبة والأخبار المصطنعة. كانت أشهراً ذهبية في حياة السوريين، جعلتهم يرفعون رؤوسهم عالياً، ومكانتهم بين شعوب العالم الحر صارت قاب قوسين أو أقل.

لكن النظام أطلق دفعة واحدة، كلّ المجرمين الجنائيين، وكلّ المتطرفين الذين يحتقرون العالم، ويكفرّون كلّ بشر، وأطلقت دول الجوار المرعوبة من شعور الحرية، إذاعاتها، وتلفزيوناتها، وتحليلاتها، تشد الجميع الى المسرح الكبير للعنف والقتل والتدمير.

الجميع ساهم في إعادة السوريين إلى قبور الانتظار، وبفجائعية أعنف، وأكثر مكراً وقسوة من قبل. لكن، ما فات الجميع هذه المرة، أنّ السوريين ذاقوا طعم الحرية، واستمتعوا بها، ولن يتخلوا عنها لأحد أبداً، سواء أكان هذا الأحد، من حملة البندقية، أو من حملة المدفعية، أو من حملة شعارات رنانة اعتاد السوريون على السخرية منها، حتى وهم تحت أشد أشكال القمع، سواء أكان القامع بلحية، أم بكرافة، أم بصاروخ فضاء. السوريون ينتظرون لحظة الإفراج عن حياتهم التي لن يتخلوا عنها أبدا.

avata
avata
إبراهيم العلوش (سورية)
إبراهيم العلوش (سورية)