السودان: خطابات الرئيس والواقع

21 مايو 2014
+ الخط -
"كان للخطابة في الماضي شأن عظيم، فقد شلت عروشاً، ودكت دعائم ممالك، ونصرت أقواما وأذلت آخرين، وقبرت دعوات وبعثت أخرى. وفي ظني أن الخطابة تبلغ شأوها إبان الأحداث السياسية الكبرى، مثل تأسيس الممالك وتوحيد الأقطار. والصدق أن الخطابة أقوى أداة من أدوات النضال السياسي والوطني. لهذا، يرى مختصون كثيرون أن لا مندوحة للزعيم من قوة الشخصية وقوة الحجة وسلاسة اللغة والإلمام بنفسية الجماعات التي يخطب فيها لبلوغ مكان الإقناع من نفوسهم"
ما تقدم اقتباس من مقدمة الدكتور عبد الله العسكر لكتاب يصب في موضوع الخطابة السياسية، اختار جامعوه (هرفيه بروكيه – وكاترين لانو – وسيمون بيترمان) عنواناً جامعاً وأسموه: 100 خطاب دمغت القرن العشرين، وقد اختاروا مائة خطيب من دول العالم كافة، وكيف أثرت خطاباتهم في شعوبهم، وفي مجمل سياسات دولهم.
وهذا ما لم يفطن له معظم خطبائنا، ولم يدركوا أن خطابهم يجب أن يكون شرفا للكلم، وميثاقا للوعد وعزم على العمل، وأن يكون فئوياً ملائماً لمتطلبات الجمهور، أو على أقل تقدير، أن يبقى على مستوى لغوي عام، حتى لا يخسر أصوات داعمة محتملة.
ومثالاً لا حصراً، سوف أتطرق لخطابات الرئيس السوداني، عمر البشير، فخطاباته، أو مخاطباته، توحي أن القيادة منفصلة عن الواقع بدرجة مؤلمة. ومن جهة أخرى، انفعال الناس بما يقوله أعلى هرم في السلطة يوحي، كذلك، بأن هنالك انفصال تام بين أطياف الشعب وحكومته. وهذه مأساة أخرى، تولدت نتيجة تراكمات من الفشل والإحباطات والخراب الذي جرى على أوجه الحياة كافة، وما طغى على السلطة من خطاب يذكر شيئاً والفعل شيء مختلف. على الرغم من أن الأمر مع البشير أصبح كأنه دعاية انتخابية مسبقة لسباق الرئاسة العام المقبل.
كلما أراد أن يقدم خطاباً، تجد ماكينة الإعلام، وكله رسمي، تعمل على أن له خطاباً قادماً فانتظروه، وتقدم أن الرئيس سيقدم رؤيته الثاقبة لكل الأوضاع. ثم يأتي الخطاب، ويتكلم الرئيس إنه لا إقصاء لأحد، فتأتي الأخبار عبر شاشات التلفزة عن هجمات شرسة للحكومة في دارفور، وتنقل عن القوة الإفريقية الدولية "يوناميد" قولها عن نزوح الآلاف، ويتزامن خبر آخر مفجع مع خطاب الرئيس عن حرق قرى ونهبها من القوات الحكومية. وعن إطلاق الحريات، يدعو الرئيس إلى بناء الثقة وإلغاء القوانين المقيدة للحريات. وعلى الصعيد العملي، تجد أن الحكومة أوقفت جريدة الميدان، وتبعتها جرائد أخرى. ويصدر الرئيس بقرار جمهوري قانون تنظيم النشاط الحزبي، فيكون بمثابة فصل الأجهزة عن مولود الحوار الخديج.
والكل يرى أن الثراء كله في جانب أبناء السلطة، والصامتين عما فعلته وما خربته في كل المجالات. وبعد ما ترسخت إمكانات جميع هؤلاء، تأتي السلطة لمناقشة الثراء الحرام، الحرام ليس في الثراء فحسب، إنما الحرام صار أوكسجين الحياة المتداول في مجالات لا تحصى.  ويخاطب الرئيس الاجتماع المغلق، وينادي المنفصلين عن الواقع معه، من وزراء وبرلمانيين، بتحسين الأداء الحكومي، والذي لم يعد موجوداً في الأصل. وينادي أن اعملوا على تنفيذ سياسات التفعيل، وفق الإمكانات المتاحة، وهو يعلم أنها صارت في خبر كان. ثم يتحدث عن توزيع السلطة والثروة. والثروة لن نقف عندها طويلاً، فهل الدعم القطري سيعمل على إنعاش الثروة من جديد؟ وهل سيبقى للمواطن الكادح شيء، بعد أن ينال كل من الشيخين، الصادق المهدي وحسن الترابي، نصيبه؟
الحديث عن توزيع الثروة يراه السواد الأعظم من الشعب شأناً داخلياً، كشيخ أحس بدنو أجله، فأوصى بتوزيع ثروته بين أولاده وبناته، وبعض العصبة من المقربين والأقارب.
وفي بعض الخطابات، يتحدث الرئيس عن الكتاب الأبيض، وما أدراك ما الكتاب الأبيض. هل هو طعن خفي في الذين وضعوا الكتاب الأسود، والذي أهم بنوده: النعي المؤلم على من جعلوا السودان تتداول السلطة فيه فقط بين الشماليين. يا للعجب: كتاب أبيض يدعو إليه من وضع آلاف الكتب السوداء! الكتاب الأسود لم يحقق لأصحابه شيئاً، والكتاب الأخضر ألقى بصاحبه في التهلكة، وأنهى أيامه بمأساة وتراجيديا تاريخية. وبالطبع، إن مستشاري الزعيم المناضل سيجعلون من تأليف الكتاب مناسبةً لإقامة عظمة الرئيس وسمو أفكاره وجماليات نظرياته القويمة والمستقيمة!
وإلى هنا، نكتفي فإن واصلنا لن نقف، فالأوجاع والآلام الضاربة في الأرواح عميقة، والشقة بين الحاكم والمحكوم بعيدة. والخطاب السياسي لا يشكل حدثا أكبر في حياة الناس، وغير قادر على (تفنيد الأحلام وإعطاء الأمل والتأثير في القلوب والنفوس، وتقديم رؤية لمستقبل أفضل للجماهير: ماك آرثر).

 

avata
avata
أسماء عبد اللطيف (السودان)
أسماء عبد اللطيف (السودان)