هذه المرحلة في حياة الطفل لها تأثير كبير في بناء شخصيته وتطور حياته.. ولا نتحدث هنا من وجهة نظر المدرسة التحليلية الفرويدية الأكثر تعقيدا، ولكن نتحدث من وجهة نظر علم النمو المعرفي- العصبي، وهو الاتجاه الأبسط تفسيرا وتطبيقا..
ولقد تم إجراء العديد من الأبحاث في جامعات العالم، لعل أشهرها ذلك البحث الذي تم في جامعة بنسلفانيا واستغرق عشرين عاما من تتبع حالات النمو العقلي والاجتماعي للأطفال، لتتواتر تلك الأبحاث وتؤكد أن هناك عوامل نفسية واجتماعية في السنوات الأربع الأولى تؤثر على نمو خلايا المخ وعلى نشاط الوصلات العصبية به، وتؤثر على جميع وظائف وقدرات العقل مدى الحياة.
وتأتي على رأس هذه العوامل ثلاثة: النظام الغذائي، التنبيه (Stimulation)، الدفء والحنان
النظام الغذائي:
هو ببساطة أن يحصل الطفل على احتياجاته الأساسية المتوازنة من بروتينات وكربوهيدرات ودهون وفيتامينات ومعادن، سواء في فترة الرضاعة (من خلال لبن الأم)، أو عن طريق أنواع الغذاء المتكاملة التي تحتوي على هذه الاحتياجات. هذا بالتأكيد يؤثر على نمو خلايا المخ، وعلى القدرات العقلية للطفل.
التنبيه (Stimulation):
تبين أنه كلما استطاع الأب والأم تعريض الطفل لمؤثرات منبهة لحواسه، ازداد نمو خلايا قشرة المخ، وكلما تم تنشيط المزيد من الوصلات العصبية لديه.. يمكن أن نعرض هذا في مثال تبسيطي: عندما تغني الأم لطفلها يتم تنشيط وصلات عصبية تتعلق بإدراك اللحن، وأخرى تتعلق بإدراك الكلام، وثالثة تتعلق بإدراك لمس الأم للطفل أثناء الغناء، ورابعة تتعلق بحركة الأم لجسد الطفل أثناء الغناء... كل هذا الوصلات تنشأ وتنمو فقط عندما تغني الأم.
ويأتي اللعب أيضا في مرتبة متقدمة جدا في إحداث ذلك "التنبيه" بكل أنواعه، سواء كان لعبا حركيا، ينمي وصلات عصبية عضلية، أو ألعاب تفكير تنمي وصلات عقلية، أو ألعابا اجتماعية تنمي مشاعر وذكاء الطفل.
كما أن هناك العديد من الأنشطة مثل الرسم والصلصال، والقراءة للطفل، والرحلات ومشاهدة أماكن جديدة، والتعرف على أصوات مختلفة وحيوانات متنوعة، وكذلك التعرف على الأقارب، وزيارة الأصدقاء والمشاركة في الأنشطة الرياضية. ولا مانع أن نضيف أيضا مشاهدة الرسوم المتحركة، ولكن يبقى الشرط الأساسي في كل ذلك هو: التنبيه.. فمثلا، إذا تركت الأم ابنها يشاهد الفيلم تلو الآخر فهذا ليس تنبيها، ولكن إذا جلست بجانبه –ولو لبعض الوقت – تشاركه الضحك والمتابعة، أو إذا جعلته يروي ما شاهده وتبادلت معه الحديث سيكون هذا تنبيها... .
الدفء والحنان من الوالدين:
لعل أقوى العبارات التي سمعتها في جلسة مع أستاذة أميركية في الطب النفسي قامت بتقديم الدعم النفسي للأطفال المنكوبين في معظم الحروب في العالم، هي أن "الدمار النفسي للأطفال الذي رأيته في البيوت الطبيعية والناشئ عن فقدان الطفل للحب والحنان من أبويه، أكبر بكثير من الدمار النفسي الذي رأيته في الحروب، فالثاني يمكن تجاوزه وعلاجه مع الوقت، أما الأول فهو الأصعب!".
لذلك نكرر دائما، الحب والحنان وخاصة في السنوات الأولى لحياة الطفل لا تؤثر فقط سلبا أو إيجابا على حالته النفسية بل والعقلية أيضا، فلا تنس أن تحتضن ابنك، وأن تعبر له عن كلمات الحب، وأن تقبله، وأن تبتسم في وجهه.. وعندما يخطئ استخدم "التهذيب الإيجابي" الذي تحدثنا عنه سابقا، والذي يبتعد كل البعد عن الإهانة أو الإيذاء اللفظي أوالبدني..