رغم إجراءات حظر التجول، إلا أن الحاج أحمد العلو يواصل الذهاب إلى عمله المعتاد كحارس لمقبرة جنوبي الموصل خصصت لدفن رفات من يتم العثور عليهم تحت الأنقاض، من أجل توثيق بيانات ومعلومات عن الضحايا قبل الدفن، حيث لا تزال المدينة، التي احتلها تنظيم "داعش" في 10 يونيو/حزيران 2014، وتم تحريرها نهاية 2017، تعيش على وقع إعلانات العثور على رفات ضحايا، بعد كل عملية رفع أنقاض منزل أو مبنى، خصوصاً في المدينة القديمة.
يقول العلو، لـ"العربي الجديد"، إنه يذهب للمقبرة حتى لا يضطر الناس لطرق بابه فجراً لتوثيق العظام التي يعثر عليها بعد رفع أنقاض المنازل. ويوضح أنه "لا يمر أسبوع إلا ويتم العثور على رفات، رغم مرور أكثر من عامين ونصف العام على انتهاء المعركة. وعادة تكون المعلومات عبارة عن أوصاف للرفات، مثل عظام طفل تحت بيت فلان في شارع كذا وكذا، أو عظام يعتقد أنها لسيدة عليها ثوب أخضر وقراصة شعر سوداء (مشبك شعر)، وعظام أخرى مبعثرة ومسحوقة لم يحترم حرمتها سائق الجرافة، يتم دفنها بشكل واحد داخل كيس من القماش".
ويحيي سكان مدينة الموصل، عاصمة محافظة نينوى شمالي العراق، الذكرى السادسة لاحتلال مدينتهم وسقوطها بيد "داعش"، على وقع اشتداد أزمات خانقة في المدينة، أبرزها ارتفاع معدلات البطالة والفقر، وشريحة الأرامل والأيتام الذين خلفتهم الحرب، وفوضى الفصائل المسلحة التي تتداخل في تحركاتها مع قوات الجيش والشرطة في الموصل وسهل نينوى وبلدات أخرى. ولا يزال نحو 40 في المائة من سكانها نازحين بفعل هدم منازلهم، أو الخوف من عدم الاستقرار، خصوصاً في سهل نينوى ذي الغالبية العربية المسيحية. وتواصل الحكومة التنصل من وعودها بدفع تعويضات تساعد السكان على إعادة إعمار منازلهم والاستقرار فيها مجدداً.
ولم تشهد مدينة الموصل، وعموم محافظة نينوى، الإعمار الذي وعدت به الحكومة العراقية، أو الولايات المتحدة وأعضاء التحالف الدولي عقب تحرير المدينة نهاية العام 2017. وما زالت مشاهد الخراب واضحة في المدينة، خصوصاً على مستوى الكهرباء وشبكات الطرق والجسور التي تربط ضفتي المدينة التي يمر من وسطها نهر دجلة. ويبقي عمال البلدية أيديهم على قلوبهم، كما يصف أحد مسؤوليها، مع كل عملية رفع أنقاض لمنزل أو مبنى، إذ عادة ما يتم العثور أسبوعياً على ما بين رفات جثة إلى 4 لضحايا قضوا تحتها، يجري نقلهم إلى مقبرة خصصت لهذا الغرض جنوبي المدينة، باتت تعرف بمقبرة "شهداء مجهولي الهوية".
وعلى الرغم من مرور ستة أعوام على هذا الحدث الذي وقع في 10 يونيو/حزيران 2014، يواصل القضاء العراقي مماطلته في استدعاء من وردت أسماؤهم في تحقيق لجنة سقوط الموصل، لاعتبارات سياسية مختلفة، لا سيما، أن المتهم الأول بالقضية، هو رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي، الذي يتحمل المسؤولية بحسب تقرير اللجنة التحقيقية البرلمانية الرسمي، الذي قال إن "المالكي و35 مسؤولاً كبيراً، يتحملون مسؤولية تسليم الموصل للتنظيم من دون قتال". وتسبب سقوط المدينة بانهيار قطعات الجيش العراقي بشكل متسارع، لتسقط مدن شمال العراق الرئيسية، وأبرزها تكريت والحويجة والقيارة وتلعفر والحضر وتلكيف وربيعة والشرقاط، قبل أن يلتف التنظيم، ويسيطر على مدن في غرب العراق أيضاً.
ويقدر مسؤول عراقي بارز في بغداد، في حديث مع "العربي الجديد"، كلفة سقوط الموصل، التي اعتبرها بوابة تسببت بانهيار باقي المدن بيد تنظيم "داعش"، بأنها "فادحة جداً بكل المقاييس"، مبيناً أن "صفحة داعش خلفت أكثر من 300 ألف قتيل وجريح، ونحو 30 ألف مفقود، فضلاً عن تهجير أكثر من 6 ملايين مواطن ودمار طاول 48 مدينة وبلدة، وخسائر مالية تبلغ أكثر من 100 مليار دولار، عدا عن تغييرات سلبية في الخارطة الاجتماعية والأمنية والسياسية والاقتصادية في عموم العراق".
وفي شارع حاوي الكنيسة، أحد أقدم شوارع الموصل، تقول سلمى الفيصل (51 سنة)، إنها عادت للمدينة حتى لا يفصلوها من وظيفتها بالتعليم الحكومي، لكن أبناءها ما زالوا في دهوك. وتضيف "الناس تخاف من الحديث، ليس من المليشيات فقط، بل حتى من القوات الحكومية النظامية، الذين لا يقبلون انتقادهم، ويحبون الذي يمتدح ويصور الحياة على أنها رائعة، لكنها ليست كذلك". وتتابع "لا ترى غير التجاعيد في وجوه الناس العابسة. بيوت مدمرة ونفوس مقهورة. داعش اللعين خلّف كل هذا الدمار، والحكومة تحترف الكذب، والمليشيات إن لم تجد عدواً خلقته، حتى تستمر بالبقاء في المدينة، واستعراض عضلاتها على بقايا بشر يمشون". وتضيف "غيّر اسمي إلى سلمى، فهذا الكلام قد يجلب لي المشاكل وقد يفصلوني من وظيفتي. سلمى اسم لا يطابق من في عمري، لكن اكتبه عندك، ولا تذكر اسمي الحقيقي".
في السياق، تَواصل "العربي الجديد" مع محافظ نينوى نجم الجبوري للحديث عن أسباب تعطل تنفيذ محاكمة المتسببين بسقوط المدينة، إلا أنه اعتذر، مشيراً إلى أن "الحديث عن الملف يخص السلطات القضائية". وفيما يتعلق بإعمار الموصل، يؤكد أن "هناك جهات سياسية تريد التغول في المحافظة من أجل تحقيق مكاسب شخصية، وبالتالي هذا الأمر يؤثر على سير عملية بناء وإعمار المدينة. وهناك من يسعى إلى ترسيخ مبدأ المحاصصة، مع العلم أنه لو لم تعمل الجهات السياسية بالمحاصصة لكانت الموصل بُنيت بعد عام واحد من تحريرها". ويضيف أن "البيروقراطية تعطل المشاريع المهمة والكبيرة في المدينة، وتحديداً الجسور والمدارس، ولكن ما زلنا نعمل على إتمامها، وهناك أكثر من مشروع سيتم افتتاحه بعد إعادة الحياة إليه"، لافتاً إلى أن "أعداداً كبيرة من النازحين عادوا إلى منازلهم خلال الأشهر الماضية، وبعض المدن شهدت تطوراً ملحوظاً، مثل ربيعة وتلكيف".
في غضون ذلك، يشير الناشط السياسي من الموصل يحيى الأعرجي إلى أن "الأهالي لا يزالون يطالبون الحكومة، في كل مناسبة اجتماعية أو حدث سياسي، بتنفيذ الأحكام بالجهات والشخصيات المتورطة بسقوط الموصل. نعلم أن هناك أحزاباً وكيانات سياسية تحاول إخفاء التحقيقات الخاصة بملف سقوط الموصل، كما أن القضاء مُقصر بمحاسبة المتسببين بالكارثة". ويبين، لـ"العربي الجديد"، أن "التحقيقات التي توصل إليها القضاء والبرلمان، أثبتت تورط العشرات من المسؤولين، بدءاً من رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، إلى ضباط ومسؤولين بالحكومة المحلية في نينوى".
ويقول المسؤول المحلي في الموصل حسام العبار إن "المتسببين بسقوط الموصل معروفون، وكل العراقيين يعرفونهم، لا سيما أهالي نينوى. وبالتالي فإن على القضاء أن يتحرك، وألا يتأثر بالمقاربات السياسية والتسويات، لأن المدينة شهدت أكبر كارثة في العالم، كما أنها تحملت كل همجية الإرهاب بالنيابة عن كل دول العالم". ويوضح، لـ"العربي الجديد"، أن "الحكومات العراقية مُقصرة في الإيفاء بحقوق الأهالي في الموصل. كما أنها لم تتكفل حتى بإعمار المدينة، فيما تنصلت غالبية المنظمات العالمية والدول التي تعهدت ببناء محافظة نينوى. إن الأهالي هم من أعاد إعمار بيوتهم من دون أي مساعدة حقيقية من جهة معينة. وهذا التقصير يعزى إلى السلطات العراقية، إلى جانب التغاضي عن المتسببين باحتلال الموصل".
من جانبه، يعتبر رئيس لجنة التحقيق البرلمانية بسقوط مدينة الموصل حاكم الزاملي أن "التذكير بهذا الملف أمر مهم، ولا بد أن تتحقق العدالة عبر القضاء العراقي، الذي من واجبه محاسبة المتورطين بسقوط مدينة الموصل. إلا أن كيانات سياسية، وأحزابا معروفة، تسعى إلى تمييع الملف وتجميده في القضاء، منعاً لمحاسبة قادة هذه الأحزاب والكيانات، باعتبارهم متورطين". ويشير، في اتصال مع "العربي الجديد"، إلى أن "نتائج التحقيق النزيه الذي أجرته اللجنة أثبتت تورط نوري المالكي وأثيل النجيفي (محافظ نينوى آنذاك)، إضافة إلى عشرات الضباط في الجيش العراقي والشرطة". ويلفت إلى أن "التقرير النهائي أرسل بعد الانتهاء منه إلى رئيس الحكومة الأسبق حيدر العبادي، ونسخة أخرى إلى هيئة النزاهة، لكن الأمر المؤسف أن القضاء لم يتحرك لاعتقال ومحاكمة المتورطين بسقوط الموصل. ما نخشاه هو أن يكون تم إتلاف الملف بسبب المساومات والضغوط الحزبية على القضاء". ويؤكد أن "أهالي الموصل ينتظرون محاكمة من تسبب بتعذيبهم، كما أن العراقيين ينتظرون أن يروا المتورطين في السجون. ولا بد من أن يُحاسب كل الذين وردت أسماؤهم بالتقرير، مهما كانت مراكزهم وأهميتهم الحزبية".