السعودية استخدمت لوبيات الضغط وإغراءات المال لصناعة نفوذ بواشنطن

22 أكتوبر 2018
حشد خالد بن سلمان لوبيات الضغط لخدمة زيارة أخيه(Getty)
+ الخط -
كثّفت الصحف الأميركية خلال اليومين الماضيين، حملتها ضد السعودية، على خلفية تصفية الصحافي السعودي وكاتب مقالات الرأي في "واشنطن بوست" جمال خاشقجي، داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، في الثاني من تشرين الأول/أكتوبر الحالي. واستباقاً لأي نتائج قد تصدر عن تركيا حول التحقيق، وفي محاولة لزيادة الضغط على الكونغرس الأميركي من أجل معاقبة المتورطين في رأس الهرم السعودي، يسعى الإعلام الأميركي لكشف ممارسات المملكة النفطية، داخل وخارج أراضيها، وخصوصاً علاقتها "الحميمة" بدوائر القرار في واشنطن، وملابساتها "غير الشفافة".


آخر التقارير ما نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، اليوم الإثنين، حول جماعات الضغط التابعة للمملكة في واشنطن، وكيفية إدارة السعودية لها، وحجم الأموال التي أنفقت عليها، خاصة مع محاولة ولي العهد السعودي الحالي محمد بن سلمان، الذي أزاح منافسيه عن السلطة واستحوذ عليها، إحكام قبضته في الداخل، في موازاة تمتين العلاقات مع الولايات المتحدة، بالارتكاز على شخصه.

ويُذكر التقرير بالحملة التي أدارها شقيق بن سلمان، سفير المملكة في واشنطن خالد بن سلمان، في شهر آذار/مارس الماضي، بمناسبة زيارة أخيه ولي العهد إلى الولايات المتحدة، حيث اجتمع بفريق مرتفع الأجر ضمن مجموعات الضغط التي تعمل لمصلحة بلاده، من أجل هدفين، الأول إعاقة إمكانية التصويت داخل الكونغرس على مشروع قانون لإنهاء الدعم الأميركي للحرب السعودية – الإماراتية على اليمن، والثاني دعم زيارة بن سلمان، الذي كان قد ثبت حكمه قبل أشهر، لا سيما باعتقالات "الريتز" الشهيرة.

ونجح الهدفان، ما عكس قوة آلة التأثير المتطورة للسعودية، والتي لعبت دوراً كبيراً في تكوين النظرة إليها والسياسة تجاهها في العاصمة الأميركية لعقود، وذلك من خلال صدّ الانتقادات للمملكة النفطية عبر ضخّ ملايين الدولارات للوبيات، ومكاتب المحاماة الرابحة، ومراكز الأبحاث المعروفة، وكذلك لشركات إنتاج السلاح الكبرى. وبحسب الأرقام المتداولة، فإن المبالغ التي صرفتها الرياض على مجموعات الضغط العام الماضي، ارتفعت بمقدار ثلاث مرات عما كانت عليه في العام 2016.

لكن حجم وقوة ماكينة وعملية التأثير السعودية هذه يخضعان، اليوم، بعد أزمة مقتل خاشقجي، لاختبار مهم، وسط تنديد دولي وعالمي بالجريمة، التي اعترفت بها المملكة أخيراً.

وبالإضافة إلى ما يصرفه السعوديون في واشنطن، فإنهم قد حصّلوا كذلك منفعة لا تقدر بثمن: علاقة دافئة مع الرئيس الأميركي (دونالد ترامب)، الذي أقام علاقات تجارية مع الأثرياء السعوديين، ومع صهره جاريد كوشنر، الذي أنشأ بدوره ارتباطاً قوياً بولي العهد السعودي، فيما كان يضع بصمته على السياسة الأميركية للشرق الأوسط. وهاتان العلاقتان اعتمدتا على العلاقة القوية وطويلة الأمد بين الرياض وواشنطن، والتي بنتها الإدارات الأميركية السابقة وطورتها مع آل سعود.

ولمناسبة زيارة أخيه للولايات المتحدة، أقام خالد بن سلمان مآدب عشاء خاصة في واشنطن، وحتى حفلات فاخرة، كمثل الحفل الذي أقيم في قاعة أندرو ميلون، تكريماً للزيارة، والذي تمّ فيه تجنيد كل فريق الضغط السعودي، لتأمين حضور أعضاء لجان وهيئات العلاقات الخارجية في الكونغرس، بحسب ما تكشف بيانات عامة. وفي وقت سابق، وصل الأمر إلى تقديم مسؤولين سعوديين تذاكر للمباراة النهائية في دوري كرة القدم الأميركي (سوبر بول)، وتذاكر سفر لنجوم في قطاع الإعلام، من أجل حضور الحدث، كجاك تابر (سي أن أن)، وبريت باير (فوكس نيوز)، بحسب تابر ومتحدثة باسم "فوكس نيوز"، لكن كليهما رفض العرض.

وكان خالد بن سلمان قد دعا بمناسبة زيارة محمد بن سلمان إلى مكتبه، مستشارين مثل نورم كولمان، السيناتور السابق عن ولاية مينيسوتا، ومارك لابكين، وهو مستشار في الكونغرس عمل في فريق ترامب الانتقالي، والاستراتيجي الديمقراطي ألفرد موتور، وذلك بحسب مطلعين على الاجتماع.


كذلك تمكنت المملكة من التأثير على صناع الرأي عبر الإغراءات المادية، وزار لهذه الغاية الجنرال المقال من منصبه بسبب قضية خاشقجي، أحمد العسيري، واشنطن، للتقرب من المراسلين الأميركيين المعروفين والمحللين والخبراء في مراكز الأبحاث. وأكدت مجموعات ضغط وعاملون في مراكز أبحاث، أنهم سيغلقون "حنفية" المال السعودي، لكن يجب الانتظار لمعرفة ما إذا كان ذلك سيشكل نقطة تحول في العلاقات بين واشنطن والمملكة، أو سيكون ذلك مجرد استراحة مؤقتة قبل عودة "البزنس" إلى طبيعته.


وخلال العامين الماضيين، كثف السعوديون جهودهم لتدعيم العلاقة مع الولايات المتحدة، تقول "واشنطن بوست" بحسب الأرقام المتداولة. فقد بلغ إنفاق المملكة على جماعات الضغط والجماعات الاستشارية داخل الولايات المتحدة الأميركية، العام الماضي، 27.3 مليون دولار، بعدما كان قد انخفض في عام 2016 إلى 7.7 ملايين دولار، مقارنة بالعام الذي سبقه (14.3 مليون دولار). وسجل أكثر من 200 شخص أسماءهم كعملاء لصالح السعودية، منذ 2016، بحسب بيانات رسمية.



وبين أولئك الذين سجلت أسماؤهم على لائحة الدفع السعودية، مجموعة من أهم شركات العلاقات العامة ومجموعات الضغط في واشنطن: مجموعة "ماكيون" والتي يرأسها هوارد ماكيون، الرئيس السابق للجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي، ومجموعة "بي جي آر"، التي أسسها الجمهوريان البارزان إيد روجرز وهالي باربور، ومجموعة "غلوفر بارك"، التي أطلقت من قبل استراتيجيين بارزين ينتمون للحزب الديمقراطي، بمن فيهم جو لوكهارت وكارتر إسكو، وشركة مجموعة بودستا التي تمّ حلّها، لصاحبها توني بودستا، أحد كبار المنخرطين "في اللوبيات" من الحزب الديمقراطي.

ويساهم روجرز وإسكو في صفحة الرأي في "واشنطن بوست". الأسبوع الماضي، أعلنت شركتاهما الانسحاب من تمثيل السعودية. وأبلغتهما "واشنطن بوست" أنه لا يمكنهما الجمع بعد الآن بين الكتابة على صفحاتها والضغط لصالح المملكة النفطية.

إلى ذلك، تدفقت أموال السعودية، وكذلك أموال حليفتها الإمارات، إلى مراكز أبحاث مهمة في واشنطن، من بينها "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية"، و"معهد بروكنغز"، و"معهد الشرق الأوسط"، التي أعلنت جميعها الأسبوع الماضي أنها ستنهي أو تعيد النظر في الهبات السعودية.

ويقول السيناتور الديمقراطي كريس مورفي، المعارض للحرب على اليمن، إن "واحدة من البديهيات المفروضة في واشنطن في ما يتعلق بالسياسة الخارجية هي أن الولايات المتحدة والسعودية لديهما علاقة مميزة لا يمكن كسرها". ولفت إلى أنه "على الأقل كل من هو حذق، ويعرف بالعلاقات الخارجية ويدخل مكتبك، يقول لك ذلك. ولكن كما يتضح، الكثير من هؤلاء الأشخاص يحصلون على أموال الخليج".

وبحسب "واشنطن بوست"، فإن أحد أكبر المنتفعين من المال السعودي هو "معهد الشرق الأوسط"، الذي يصف نفسه بأنه "مصدر معلومات وتحليل غير منحاز". هذا المعهد يرأسه ريتشارد آي. كلارك، الذي شغل مناصب أمنية وطنية رفيعة خلال عهود رونالد ريغان، جورج دبليو بوش، وبيل كلينتون.

وحصل "معهد الشرق الأوسط" بين العامين 2016 و2017 على تمويل سعودي تراوح بين 1.25 مليون دولار وأربعة ملايين دولار، بحسب كشفٍ عن حساباته. وفي العام 2016، حصل المعهد على 20 مليون دولار من الإمارات، من أجل تجديد مقره.

ولـ"معهد الشرق الأوسط" علاقة مع السعودية من بابٍ آخر. فمايكل بتروزيلو، الذي عمل كمحامٍ لصالح المملكة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، والذي حصلت شركته للاتصالات "كورفيس إم إس أل غروب" على 6.3 ملايين دولار من السعوديين خلال العامين الماضيين، كان عضواً في مجلس إدارة المعهد حتى وقت سابق من العام الحالي، بحسب متحدث من المعهد. أما جاك مور، مدير مكتب واشنطن لفرع شركة النفط السعودية "آرامكو" في شمال أميركا، فهو حالياً عضو في مجلس إدارة المعهد.

واستعاد اللوبي الذي يعمل لصالح السعودية نشاطه، وكثفه بعد انتكاسة حصلت في خريف العام 2016، عندما تمّ تمرير قانون "جاستا" الذي يسمح لأهالي ضحايا 11 أيلول بمقاضاة السعودية، المتهمة بتقديم الدعم للإرهابيين المتورطين بالهجوم الذي شهدته الولايات المتحدة عام 2001. واستمرت الحكومة السعودية بالضغط ضد "جاستا" حتى بداية العام 2017. وتمّ توظيف محاربين قدامى في الجيش الأميركي للقدوم إلى واشنطن، لتحذير الكونغرس من أن تفعيل القانون قد يعرضهم لاحتمال المقاضاة.

وتقول تيرا سترادا، التي خسرت زوجها في الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك، إن "السعوديين قذرون جداً في حربهم (ضد جاستا). لقد جاء المحاربون القدامى إلى واشنطن، وكانوا يتكلمون بلغتهم".

يذكر أن بعض هؤلاء المحاربين لم يكن يعلم أنه يعمل لصالح السعودية، بحسب شكوى رفعت العام الماضي إلى وزارة العدل من قبل عائلات ضحايا 11 أيلول. وتظهر سجلات مجموعات الضغط أن هؤلاء تمّ إنزالهم في أحد فنادق دونالد ترامب، ودفعت المملكة مبلغاً قدره 270 ألف دولار.

علاقات شخصية

عندما كان دونالد ترامب لا يزال مرشحاً جمهورياً للانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016، وصف الفيتو الذي وضعه الرئيس السابق باراك أوباما على "جاستا" بـ"المخجل"، وأحد "أسوأ النقاط التي من الممكن أخذها على عهده". لكن ترامب، وصهره جاريد كوشنر، ما لبثا، بعد وصول الأول إلى البيت الأبيض، أن نسجا علاقات شخصية مع السعوديين. في البداية، جرى التعارف بين الطرفين عن طريق توماس باراك جونيور، صديق ترامب منذ ثلاثة عقود، الذي يدير أعمالاً تجارية في الشرق الأوسط، ولديه علاقات شخصية مع شخصيات قوية في السعودية، وكذلك في قطر والإمارات.

في أيار/مايو 2016، سهل باراك تعارف كوشنر وسفير الإمارات في السعودية يوسف العتيبة. وتحدث باراك مع ترامب بشأن إمكانية لقائه زعماء آخرين في الشرق الأوسط. كما أشاد بأمير قوي يدعى محمد بن سلمان، بحسب شخص مطلع على الموضوع. وبعدها التقى كوشنر ببن سلمان في البيت الأبيض، في العام 2017، عندما كان الأخير لا يزال ولياً لولي العهد، لتنشأ بينهما علاقة قوية كما بات معروفاً، ما أثار قلق مسؤولين استخباريين أميركيين.

وكان حساب تويتر @ArabiaNow، التابع للسفارة السعودية، والذي تديره "كورفيس"، قد سبق زيارة بن سلمان إلى واشنطن بتقديم صورة مشرقة عن المملكة ودورها في اليمن. كذلك فعل بعد انتهاء الزيارة.


في ذلك الوقت، كان أحد منافسي بن سلمان، ولي العهد السعودي آنذاك محمد بن نايف، يسعى بدوره للوصول إلى إدارة ترامب. وفي مايو/أيار 2017، قامت وزارة الداخلية السعودية، التي كان يرأسها بن نايف، بدفع مبلغ 5.4 ملايين دولار، لشركة يديرها مستشار لحملة ترامب يدعى روبرت ستريك. وانتهت هذه الصفقة بمجرد إطاحة بن سلمان بابن عمه.

وعندما كان بن سلمان في واشنطن للمرة الأولى في عهد ترامب، لم يكن لوحده. في تلك الأثناء، كتب الجنرال أحمد العسيري، الذي طرد من منصبه الأسبوع الماضي كأحد "أكباش الفداء" في قضية خاشقجي، مقال رأي في موقع "فوكس نيوز" تحدث فيه عن أهمية الشراكة الأميركية – السعودية في محاربة الإرهاب. وتمّ إدخال مقال عسيري إلى سجلات الكونغرس عن طريق النائب الجمهوري إدوارد رويس، الذي مدح "دعم عسيري لتبادل المعلومات الاستخبارية"، مؤكداً أن "العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية أساسية في الحرب ضد الإرهاب".

وكان عسيري قد التقى في مايو 2016 بصحافيين في واشنطن، للحديث عن الحرب التي تقودها بلاده ضد اليمن، حين استقبله "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" لمناقشة القلق حول مسألة حقوق الإنسان في اليمن، بحسب ما أكد مركز الأبحاث.

طنين "النشاط" في واشنطن

في آذار/مارس الماضي، وتمهيداً لزيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لواشنطن، دبت الحركة في ماكينة السعودية في واشنطن، إلى حدّ "الطنين"، بحسب وصف "واشنطن بوست".

في مقر السفارة السعودية، عرض خالد بن سلمان برنامج زيارة أخيه، ولائحة بالمدن التي سيزورها، وأخذ مقترحات حول الأشخاص المهمين الذين يجب أن يلتقيهم بن سلمان، بحسب أشخاص مطلعين.

وقال كولمان إن اللقاء في السفارة كان "روتينيا"ً، أما موتور فأكد أنه حضر مع لامبكين، باسم شركتهما "بروانشتين خياة فاربر شريك".

وخلال الأسابيع السبعة التي سبقت تصويت الكونغرس حول مشاركة الولايات المتحدة بحرب اليمن وزيارة بن سلمان، سجل تواصل "لوبي" السعودية 759 مرة مع أعضاء من الكونغرس، وأكاديميين، وصحافيين، باسم الحكومة السعودية.

وعملت الممكلة ضد ثلاثي غير عادي وعابر للحزبين الأميركيين، الجمهوري والديمقراطي: السيناتور مورفي، والسيناتور مايك لي، وبرنس ساندرز، الذين كانوا يدفعون لإنهاء تدخل بلادهم في اليمن.

وقالت أندريا براسو، نائبة مدير منظمة "هيومن رايتس ووتش" في واشنطن، إنها كانت مرة تتحدث مع مساعد بارز في الكونغرس حول الضحايا المدنيين في اليمن، بينما كان الأخير يتلقى في الوقت ذاته رسائل نصية على هاتفه من سفير الإمارات يوسف العتيبة. وأخيراً، لم يمر التصويت على إنهاء التدخل الأميركي في اليمن. وفي اليوم ذاته، وصل بن سلمان إلى واشنطن، مطلقاً ثلاثة أسابيع من العلاقات العامة، التقى خلالها أوبرا وينفري، وبيل غايتس، وجيفري بيزوس، رئيس مجلس إدارة "أمازون"، الذي يملك "واشنطن بوست".

وتمّ استقبال بن سلمان بمقال على موقع "معهد الشرق الأوسط"، بقلم فهد ناظر، وبعنوان "الولايات المتحدة والغرب يجب أن يلاحظوا التغييرات الجذرية التي تحصل في السعودية ويدعمها بن سلمان". ناظر كاتب عمود في صحيفة سعودية، ومستشار سياسي في السفارة السعودية في واشنطن، لكن المقال يقول إن "وجهة النظر التي يكتبها تعبر عن رأيه الشخصي"، رغم أنه تلقى 91 ألف دولار بدل أتعاب استشارية من المملكة في العام 2017.

اليوم، تبحث العديد من معاهد الأبحاث الأميركية في إعادة تقييم علاقتها وارتباطها بالسعودية، بعد مقتل خاشقجي، تكتب "واشنطن بوست". ويقول دانيال بنجامين، مدير "مركز جون سلون ديكي" في جامعة دارتماوث، إنه "بالنسبة إلى هذه المراكز، وكذلك المتاحف، والجامعات، الحصول على مال سعودي سوف يترك بقعة سوداء في الفترة المقبلة ".

"بروكنغز" و"مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" أعلنا عدم قبول منحتين من السعودية الأسبوع الماضي، مع "متابعة للتحقيقات بمقتل خاشقجي".

المساهمون