وقد تنفس الجميع في فرنسا الصعداء، مساء الخميس، حين علموا بتصفية المهاجم الفار. فتصوُّرُ إرهابي مسلح طليق، في مثل هذه الظروف من الإضرابات ومع الاستعدادات لاحتفالات الأعياد، لا يطاق. وبالتالي فإنّ الجميع أحسّوا بالارتياح، وعلى رأسهم قوات الأمن، وعموم المواطنين. لكن هذا الارتياح كان له وقع خاص على مضربي "السترات الصفراء"، الذين وجدوا أنفسهم في وضعية صعبة، مع توالي الدعوات التي تحثهم على وقف تظاهراتهم المقررة اليوم في جولتها الخامسة، تحت مبررات مختلفة. ومن هذه المبررات عدم التسبب بإرهاق إضافي لقوات الأمن، وأنّ الرئاسة لم تعد صماء وقدّمت تنازلات مؤلمة، رغم اعتراض رئيس الحكومة إدوار فيليب وأكثر من وزير، خصوصاً الاقتصاد والميزانية، ومنها أيضاً، أنّ ما لم يتحقّق في الإعلان الرئاسي، يمكن مناقشته ومحاولة فرضه خلال الاستشارة الكبرى التي ستنطلق اليوم أيضاً، والتي ستعرفها كل ربوع فرنسا وعلى جميع المستويات، والتي ستكون حركة "السترات الصفراء" حاضرة فيها، إلى جانب فاعلين اجتماعيين واقتصاديين كُثُر.
وإذا كانت معظم الأحزاب السياسية المعارضة التي كانت من داعمي "السترات الصفراء"، طالبت بوقف تظاهرة اليوم من أجل تسهيل مطاردة الإرهابي، وخصوصاً حزب "الجمهوريون" و"التجمع الوطني"، فإنّ حركة "فرنسا غير الخاضعة"، بقدر إدانتها الشديدة للعمل الإرهابي، شدّدت على وجوب احترام حقّ "السترات الصفراء" في تنظيم تظاهراتهم، معلنةّ أن مناصريها سيشاركون فيها في حال تنظيمها.
وحتى حركة "السترات الصفراء" شهدت بلبلة داخل مجموعاتها. فقد ذهبت تصريحات لممثلي تيار "السترات الصفراء الحرة"، في اتجاه وقف تظاهرة اليوم السبت، والبحث عن بدائل أخرى، غير الصمود في الطرقات والتظاهرات في المدن الكبرى، خصوصاً بعد إلغاء الزيادات على المحروقات وإعلانات الرئيس إيمانويل ماكرون الأخيرة. ولكن "السترات الصفراء" في غالبيتها، والتي أعلنت تضامنها مع الضحايا وعائلاتهم، رفضت وقف حراكها، ما دام أنّ الإعلانات الرئاسية، التي جاءت متأخرة، هي دون المطلوب، بنظر الكثيرين.
ومع التخلّص من إرهابي ستراسبورغ، تغيّرت المعطيات على الأرض، فلم تعد "السترات الصفراء"، المصرّة على التظاهرة، تشعر بعقدة الذنب، التي كانت ستكبر لو أن المهاجم استطاع الضرب من جديد. وليس من شك، إذن، في أنه سيتم تنظيم تظاهرات اليوم في باريس والمدن والبلدات الفرنسية الأخرى، وهذه أيضاً قناعة وزارة الداخلية التي أعلنت يوم أمس الجمعة، عن تعزيز الإجراءات الأمنية في العاصمة، فيما جدد قائد شرطة باريس، ميشال ديلبيش، التعبير عن خشيته من "قدوم العناصر الأكثر راديكالية لتنفيذ أعمال السلب والنهب في العاصمة".
وتمثّلت التعزيزات الأمنية للردّ على الاحتجاجات المنتظرة، في تعبئة 8 آلاف عنصر من أفراد الشرطة والدرك، من بينهم "قوات ثقيلة" من كتائب الدرك المتحركة، وأيضاً من عناصر متحركة في الشرطة، إضافة إلى 14 مصفحة تابعة للدرك، مع توفير حماية استثنائية لمحيط المؤسسات الحساسة، من الإليزيه ووزارة الداخلية والبرلمان والرئاسة الأولى، وصولاً إلى حماية وقائية دقيقة لمختلف المنشآت في عموم العاصمة.
ولا شكّ في أنّ ثمّة وجوداً لعناصر متطرّفة بين محتجي "السترات الصفراء" المصرّين على التظاهر في باريس، ولكن من الصعب قبول بعض المبالغات التي يعبّر عنها نواب الأغلبية، حين يخلطون بين الأغلبية المسالمة وبين الفوضويين، خصوصاً مع انتشار شهادات بين أيدي "شرطة الشرطة"، توثّق تجاوزات عنيفة لبعض أفراد هذه المؤسسة الأمنية، لم يَسلم منها حتى الصحافيون والمصورون، رغم حملهم لشارات صحافية.
حجم التعبئة
ولا شكّ في أنّ التعبئة للاحتجاجات اليوم ستكون أقلّ زخماً من سابقاتها، والأسباب كثيرة ومتعددة، ولعل على رأسها، التهويل الرسمي، والذي بدأ يتجلى عبر الهجوم الإعلامي الممنهج، للتحذير من خطر مثيري العنف والشغب. وقد وصل هذا التهويل أحياناً، على لسان بعض الوزراء، إلى حدّ التنبؤ بمشاهد عنف شديدة قد تصل إلى القتل، وهو ما سيدفع الكثيرين إلى البقاء في منازلهم.
وبما أنّ حركة "السترات الصفراء" هي تجمّع شعبي غير متجانس، اجتماعياً واقتصادياً (من العاطل من العمل، إلى المتقاعد، إلى من يحصل على أقل من الحدّ الأدنى للأجور، إلى من تغيظه الزيادات على المحروقات...)، فثمة شرائح وجدت نفسها، خارج الحراك. كما أنّ الكثيرين من الفرنسيين المُضربين، عبروا عن رضاهم الكلي أو الجزئي، عن الإعلانات الرئاسية، وثبت لهم أنّ عليهم أن يعودوا إلى بيوتهم.
وإذا استثنينا هؤلاء المستفيدين، بشكل أو بآخر، من التنازلات الحكومية والإعلانات الرئاسية، فإنّ أغلبية المُرابطين، وهم في حدود 80 في المائة، حسب مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بهم، يقولون إنهم خارج إطار المستفيدين من هذه الإعلانات، وأنّ لا حلّ سوى مواصلة الحراك، حتى ولو اضطُرَّهم الأمر للبقاء في العراء خلال الأعياد.
وفي السياق، دعت حركة "فرنسا غير الخاضعة" في بيان لها أخيراً، إلى التظاهر اليوم السبت مع "السترات الصفراء" في ميترو "سان لازار" ابتداءً من الساعة 10 صباحاً، والمشاركة في التظاهرة النقابية في بولفار فولتير، عند الساعة 12 ظهراً.
في المقابل، طالب حزب "الجمهوريون"، الفرِح من عدم إعادة الضريبة على الثروة، بوقف الحراك، وبدء النقاشات الهامة. أمّا رئيسة حزب "التجمّع الوطني" اليميني المتطرّف، مارين لوبان ورغم أنها كانت قد ناشدت بإلغاء تظاهرة اليوم بسبب مطاردة شريف شيكات، إلا أنّها عادت وقالت إنه، خلافاً لخبر كاذب منتشر، فإنّها لم تتخلَّ عن "السترات الصفراء" ولم تطالب بحظر تظاهرة اليوم. وقد حقق "التجمّع الوطني" قفزة بنسبة 7 في المائة، بفضل حركة "السترات الصفراء"، ولو جرت الانتخابات الأوروبية اليوم، لسَحَق هذا الحزب، حزب ماكرون، "الجمهورية إلى الأمام".
هذه الحقيقة المرعبة دفعت مدير صحيفة "ليبراسيون"، لوران جوفران، إلى تكريس افتتاحية للحديث عن "التأثير الرمادي" (اليمين المتطرف) على "السترات الصفراء"، مؤكداً أنّ اليمين وخصوصاً اليمين المتطرّف، هو الفائز من الحراك. واعتبر أنّ خطاب ماكرون "كان مشرفاً"، وأنه لا أحد يعرف ما ستكون عليه "الجولة الخامسة".