لطالما استشهد السبسي في خطاباته السياسية بآيات قرآنية، لدفع احتكار "النهضة" للدين، ولطالما دافعت حركة النهضة عن تحولاتها الجديدة، والدفاع عن قضايا المرأة والفصل بين الدٓعٓوي والسياسي، لتثبت أنها حزب جديد يسير نحو المدنية الخالصة، ودفع تهمة الخلط بين الدين والسياسة. لكن اختبار الإرث أعاد الجميع إلى المربع الأول، لأن السبسي في نظر كثير من التونسيين المحافظين، فقد ورقة مهمة جداً، في حين لخّص إمام تونسي موقف هؤلاء من النهضة بـ"أنهم انتخبوها للدفاع عن الدين ولكنها خذلتهم".
وعلى الرغم من أن "النهضة" لم تصدر إلى الآن موقفاً رسمياً من هذه القضية، إلا أن تباين المواقف بين عدد من قياداتها أظهر اختلافاً واضحاً في صلبها، قد يبدو معقولاً بالنظر إلى أنه لم يجر التباحث إلى الآن بجدية في الموضوع، في انتظار عودة منظرها ورئيسها راشد الغنوشي من عطلته الصيفية، لكنه ينبّه بالرغم من ذلك إلى التباعد الواضح بين تيارين داخل الحركة.
رفيق عبد السلام، القيادي البارز في الحركة، أكد في تدوينة على صفحته الرسمية أن "النهضة، وإن كانت مع حقوق كاملة وغير منقوصة للمرأة، فإنها لن تصادق على شيء يتعارض مع ثوابت الدين وروح الدستور وما استقر عليه المجتمع لقرون متتالية".
بدورها، اعتبرت النائبة منية إبراهيم أنّ الاجتهاد ليس مسموحاً في الثوابت. وتساءلت في تدوينة على فيسبوك، لماذا يفشل رئيس الجمهورية في كل مرة أن يكون رئيساً لكل التونسيين والتونسيات؟ ولماذا هذا الإصرار العجيب على الفشل؟
كذلك رأى الوزير السابق، النائب عن الحركة، محمد بن سالم، أن حديث رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي عن المساواة في الإرث فتوى على هواه لم تقم على ركائز، وأنّ المسألة محددة بآيات قرآنية صريحة في حين يرى رئيس الجمهورية أنها قابلة للاجتهاد.
في المقابل، اعتبر نائب رئيس حركة النهضة، النائب الأول لرئيس البرلمان، عبد الفتاح مورو، أن "السبسي رجل حكيم ومدرك وفاهم... والكلمة التي ألقاها في ميزانها، وقد وجهها إلى الإطار الديني وليس إلى الأطراف السياسية". وأضاف مورو، في حوار إذاعي، أنه كان يجب على السبسي أن يتشاور مع الأطراف السياسية ومع الطرف الديني، لأن القضية ليست سياسية فقط.
ويبدو أن مورو يلخّص تقريباً موقف الحركة عموماً، إذ تنتظر رأي الساحة العلمية المتخصصة، وتفاعل الرئيس السبسي معها، وكذلك أعمال اللجنة التي كلفها ببحث الموضوع، حتى تخرج بموقف يمكّنها من تقييم هذا الاختبار الصعب من كل جوانبه.
من جهته، أكد نائب الغنوشي، علي العريض، في تدوينة نشرها على صفحته الرسمية، "دعمه لكل تشريع أو إجراء يحمي مكاسب المرأة ويرتقي بها في ضوء تطور المجتمع التونسي ويتقدم بها نحو المساواة والعدل". لكنه اعتبر أن أولويات البلاد في هذه الفترة هي "مقاومة الإرهاب والفساد والمثابرة على الإصلاحات وتحقيق النمو واستعادة التوازنات المالية ومعالجة مطالب التنمية، وهو ما يتطلب تركيز جهد الحكومة على هذه الأولويات ودعم الوحدة الوطنية والاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي".
وهو ما أكده أيضاً المتحدث الرسمي باسم حركة النهضة، عماد الخميري، إذ أشار إلى أن موقف حزبه في ما يتعلّق بعلوية المبادئ الدستورية ثابت. ولفت إلى أن لجنة الحريات الفرديّة والمساواة التي أعلن عنها رئيس الجمهورية ستنظر في كيفية تفعيل هذه المبادئ. وأضاف الخميري، في تصريح صحافي، أن الحركة ستتفاعل رسمياً مع كل ما سيتمّ اقتراحه في إطار المؤسسات الرسمية وفي إطار مجلس نواب الشعب حين عرض برامج ومشاريع اللجنة المُحدثة.
وعلى الرغم من أن النهضة نجحت إلى حد الآن في الخروج بأقل الأضرار، وتجنبت موافقة تامة أو رفضاً قطعياً، وتركت الكرة في ملعب السبسي، إلا أن تأخرها في إعلان موقف صريح سيكون له ثمنه، والإعلان عن هذا الموقف، أيّاً كان توقيته، سيكون له ثمنه أيضاً. لكن يبدو أن المزاج العام التونسي واضح في هذا الشأن، لكنه ليس المحدد الوحيد في هذا الموضوع، إذ إن القضية لم تعد تونسية فقط، وهو ما تبيّن من العديد من المواقف العربية والإسلامية في هذا الصدد، ولكنها غربية أيضاً. وكان البرلمان الأوروبي قد دعا تونس في وثيقة صادق عليها بتاريخ 14سبتمبر/أيلول 2016، وفي الفقرة 14، إلى مراجعة مجلة الأحوال الشخصية وما تضمنته من إجراءات بخصوص الميراث والزواج وغيرها. كما دعا في الفقرة 21 إلى إلغاء القانون الذي يعاقب المثلية الجنسية بالسجن، وهو ما يتناقض بحسب وثيقة الاتحاد الأوروبي مع الحريات الفردية والدستور. ولذلك اعتبر منتقدو مبادرة السبسي أنها جاءت تحت ضغط الإملاءات الخارجية.
وفي كل الحالات يتبين أن مبادرة السبسي، التي اعتقد البعض أنها ستشكل ورطة للنهضة، تحولت إلى ورطة للجميع وغربال فرز شعبي سيشمل الجميع قبيل الانتخابات البلدية، ولعله كان يمكن أن يعيد مناخات الاستقطاب السياسي على قواعد الهوية والدين كما حدث قبيل انتخابات 2014. وإن كانت مختلف المواقف لن تؤثر بشكل كبير على الاستحقاق الانتخابي البلدي لأن معاييره محلية وتنموية خالصة، لكنها ستكون بالتأكيد سلاحاً مرجحاً في انتخابات 2019.