منذ أكثر من ألف عام، وبعض الكتب التاريخية تذكر أنه منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، كان الكل في إيران يعرف ما هي زهرة السعادة، ولكن لم يكن الكل قادراً على استخدامها، وتقول الكتب أيضاً إن استخدام هذه النبتة كان مقتصراً على الطبقة الحاكمة والمرفهة، وبعد سنين أصبحت جزءاً أساسياً من كل تركيبات أدوية علماء وحكماء ذاك الزمان، ومنهم الرازي وابن سينا والبيروني، وهو ما جاء في كتبهم الموجودة إلى اليوم.
في الأدب الفارسي القديم، عندما كان يوصف أي شخص بصفة "الزعفراني" فإن المقصود من هذا الوصف هو الشخص الضاحك المتفائل، وفي أساطير عدة ذكر أن الزعفران يطيل العمر، وهو ما جعله إكسير الحياة والخلود الذي يوضع في أيدي الملوك والسلاطين في بلاد فارس القديمة، أما الإخمينيون الذين حكموا إيران قبل سنين طويلة وهم من يمثلون العصر الذهبي للفرس كانوا يستخدمون الزعفران في الخبز، بل وكانوا يعطرون به الأطعمة التي يتناولها أصحاب البلاط الملكي، كما كان ينثر الزعفران مع السكك الذهبية في الأعراس والأفراح وكل الطقوس الإيرانية القديمة.
كل هذا يجعل الزعفران في إيران نبتة غير عادية، فهي جزء من التاريخ والثقافة الإيرانية، ويطلق عليها اليوم لقب "الذهب الأحمر"، أو "ذهب الصحراء"، فخيوط الزعفران الحمراء المستخرجة من أزهار الزعفران البنفسجية اللون تعد من أغلى البهارات في العالم.
الزعفران ينمو في المناطق الجافة وفي ظروف مناخية صعبة، إذ يزرع في المناطق ذات الحرارة الشديدة صيفاً والبرودة القارسة شتاء، والتي لا يتساقط فيها المطر بغزارة. والمفارقة أن زهرة الزعفران تختلف عن كل مثيلاتها من الأزهار الزنبقية أو غير الزنبقية، إذ يبدأ نموها في الخريف وينتهي عمرها في الربيع، على عكس النباتات الأخرى، ورغم أنها لا تحتاج إلى الماء لكنها تدخل في "سبات صيفي" خلال الأشهر السنوية الحارة.
تمتد أزهار الزعفران البنفسجية خلال فصل نموها على مد النظر في حقول تقع شمال شرقي إيران تحديداً، ولا سيما في محافظة خراسان، ويحتاج استخراج الزعفران إلى عدد كبير من العاملين والفلاحين الذين يجب عليهم قطف الأزهار وتجفيفها يدوياً، وهذا لأن استخراج بضعة غرامات من الزعفران يحتاج إلى عدد كبير من الأزهار، فكل 150 زهرة تقريباً تنتج غراماً واحداً فقط من الزعفران، أي أننا نحتاج لأكثر من 147 ألف زهرة لنحصل على كيلوغرام واحد من الزعفران المجفف، وهو ما يجعل بيعه بالغرامات وليس بالكيلوغرامات، على عكس الأعشاب المستخدمة كبهارات في غالبية الأطعمة.
يجب على هؤلاء الفلاحين الانطلاق باكراً إلى حقول الزعفران البنفسجية اللون وهذا قبل أن تشتد حرارة الشمس، وبعد قطف الأزهار التي لا تعيش وهي متفتحة إلا أربعة أيام، تفصل البذور عن خيوط الزعفران الحمراء والموجودة داخل الزهرة، لتجفف فيما بعد على درجة حرارة عالية تصل إلى ستين درجة تقريبا، ويصبح بعدها جاهزا للتغليف والتعبئة والاستخدام.
التكاليف قد لا تكون عالية للغاية، فالزعفران يحتاج إلى قوى عاملة أكثر من حاجته لمعامل وأدوات وآلات، ولكن وجود هذه الزهرة في أماكن محددة من العالم، وحاجتها لظروف مناخية معينة، فضلا عن فوائدها الجمة يجعلها الأغلى، فكل مثقال زعفران أي كل خمسة غرامات تقريبا يبلغ سعره ثمانية دولارات.
يستخدم الزعفران بالأساس في المطبخ الإيراني، فله رائحة عطرة مميزة ومختلفة، وطعمه حلو، ولا يخلو أي بيت إيراني منه، فهو يستخدم مع الأرز الذي يعد رئيسيا في كل وجبة في المطبخ الإيراني كما يخلط مع العديد من أطباق اللحوم والدجاج، وثلاثة أو أربعة خيوط حمراء من الزعفران تكفي لأكثر من طبق واحد من الأرز، فبعد دق الخيوط وخلطها بماء فاتر يتحول اللون إلى الأصفر، ليخلط السائل مع الطعام الإيراني.
في الوقت ذاته، يستخدم الزعفران في العديد من الصناعات الغذائية كالحلويات الإيرانية المعروفة مثل "السوهان" أو حتى في صناعة بعض أنواع الأجبان والزبدة.
من جهة ثانية، للزعفران أهمية علاجية ودوائية يعرفها الإيرانيون منذ قديم الزمان، وإن لم يكونوا يعرفون التفاصيل العلمية الدقيقة آنذاك، فاليوم يستخدم الزعفران في الطب البديل وفي تركيب الأدوية، وتنقل بعض الدراسات العلمية أن له آثاراً إيجابية على الصحة، فالزعفران يعالج أمراض المعدة، وعسر الهضم، ويستخدم كمسكن لآلام اللثة والأسنان، ويقي من السرطان، كما أن بعض الأبحاث أشارت إلى دوره الإيجابي في محاربة أورام هذا المرض الخبيث، كما يستخدم الزعفران كمقوٍّ جنسي.
ولما كان الزعفران في الثقافة الإيرانية القديمة إكسيراً للسعادة، فالأبحاث اليوم تشير إلى أنه علاج للاكتئاب، كما أنه مهدئ طبيعي ويساعد على تقوية الذاكرة والوقاية من الزهايمر ومرض باركينسون.
يدرك الإيرانيون الذين يعتاش الآلاف منهم على زراعة الزعفران أهمية هذا المنتج، فأصبحت البلاد المصدر الأول للزعفران في العالم، حيث تنتج سنويا مائة طن منه، وكما للزعفران فوائد اقتصادية جمة، فإنه أيضا منتج سياحي، حيث إن من يقررون التعرف إلى إيران عن كثب، لا يفوتون زيارة حقول الزعفران التي تمتد على مد النظر، ولا ينسى كل من يزور إيران أو كل إيراني يسافر خارج البلاد أن يقدم علبة صغيرة من الزعفران لأحبائه وأقاربه.
عّرفت إيران الآخرين إلى الزعفران منذ أكثر من مائة عام، فالنبتة التي تزرع فيها وفي مناطق أوروبية محددة من اليونان وإسبانيا وإيطاليا، تعد جزءاً من ثقافات دول أخرى أيضاً، كالهند وبعض الدول العربية، فإيران استطاعت نقل الزعفران إلى خارج حدودها في عهد القاجاريين الذين حكموا البلاد قبل أكثر من مائة عام، فقد فتح باب إيران أمام الغرب الذين قرروا الدخول إليها للاستثمار في النفط، ولكنهم خرجوا منها بالعديد من الأمور على رأسها الزعفران الذي كان وما زال إكسير سعادة الكثير من الإيرانيين.