تتغذَّى الروايات العالمية بعضُها من بعضٍ، وتتحاور عبر قنوات التناص والتداعي بين الخطابات. فتتجاوز صورُ البيان والشخوص والعبارات حدودَ لغاتها، لتتنقّل إلى غيرها من لغات الدنيا وثقافاتها حاملةً معها آثار نشأتها الأولى، ثم تتضمَّخ في سفرها ذاك بمكوّنات المقام الذي تمرُّ به، وذلك الذي تحطُّ فيه.
ولئن صدقت هذه الآلية في القديم بشكلٍ محدودٍ، مثل التحوّلات التي عرفتها حكايات "كليلة ودمنة" في قصص الشاعر الفرنسي جان دو لافنتان، فإنها تصدق أكثر في عالم اليوم، حيث صارت الآداب تتفاعل بشكلٍ أسرع وأعمق. هنا نتساءل؛ ماذا عن تجلّيات البيئة العربية في الرواية الفرنكوفونية المعاصرة، ولا سيّما مع استمرار حضور أسماء عربية كثيرة في المدوّنة الروائية الفرنسية مثل كمال داود وليلى سليماني وغيرهما.
جميع هؤلاء تحصّلوا على تكوين عربي بالأساس، ثم أضافوا إليه الرصيد الثقافي الفرنسي بإتقان نصوصه الكبرى والاطلاع على عوالمها الرمزية. وفي هذه المدونة، تتراءى عشرات السرديات، تتفاوت قيمتها، وتختلف درجات التزام أصحابها. سنركز فقط على أنماط حضور الثقافة/اللغة العربية فيها دون تعريجٍ على أبنيتها الأدبية.
فعلى صعيد المُفردات واختيارات المُعجم، تشيع، في هذه الروايات، العشرات من الكلمات ذات الأصول العربية، مع ترجماتها وغالباً دونها، حتى تلعب برسمها اللاتيني وظيفةً دلالية طريفةً: إضفاء شيءٍ من الغرابة والالتباس على النص، يدفعان المتلقي الفرنسي إلى التساؤل عن معناها بعد أن أُلقي به في متاهاتِ كلمة عربية، تشاكس هدوء البنية السردية الفرنسية. وقد تُتْرك هذه المفردات على حالها لأنَّ مُقابِلها الفرنسي لا يوجد أصلاً، أو لأنه، إن وُجِد، لا يؤدّي الدلالة بما فيها من إحالاتٍ رمزية، بل وقد يفقرها من معانيها الحافة.
وأما ما يتعلق بالشخصيات الروائية، أكانت أساسية، مُساعدة أم تزيينية، فغالباً ما تقترن بصور العربِ، وجلهم من المهاجرين إلى فرنسا أو المقيمين في قُراهم، يحملون من خلال أسمائهم تواريخَ تهميشهم، مثل: مولود، محمد، سليمان (...)، كما يُجسّدون الصورة النمطية للعربي البسيط، في أرضه يصارع التراث، أو في عواصم المَهجر، يغالب التحقير والازدراء، وغالباً ما تصير الشخصية العربية، في السردية الفرنسية، مستودعاً لسمات قارة، تَجعل منها أقرب إلى الكليشيهات الأدبية.
وعندما نتأمل الأحداث الروائية التي تكوِّن الحبكة، نلاحظ أنَّ وقائع الهجرة والإرهاب وذكريات الحربَيْن العالميّتين والاستعمار والتهميش، والعيش في الضواحي الفرنسية، والتشدّد الديني، وظاهر التراث الشعبي تحتلُّ المكانة الأولى في نسيج الروايات، فهي أحداث عربية "أصالةً" ، تحضر كبنية حَدثية وكموضوعٍ رئيسٍ في إضفاء السواد على السردية.
ويكمن الامتزاج، أكثر ما يكمن، في سَفَر المراجع الثقافية، وفي تهجيره قد تتجلّى براعة الرواية حين تنقل إلى اللغة الفرنسية، ومنها إلى العالمية، أشياء المعيش العربي المادية والرمزية كالمفاهيم الدينية والإثنوغرافية والاجتماعية بالإضافة إلى مكوّنات الديكور اليومية، آتية من شدة الحياة القروية أو من صخب الضواحي والمدن، فتجعل منها مراجعَ تحاورُ مكوّنات المعاصرة وتناكف في السرد تجانسها.
فالروائي المغاربي، تكتب الناقدة أنَّا زوبيلاري :"يتنَقل في عالم المَراجع الثقافية غير الغربية، تلك التي تنتمي إلى مَوطنه الأصلي، فيقرأ من خلالها المراجع الثقافية المتأتية من عالَم المعاصرة المتعدّد، كاشفاً بذلك وجود بِنية تفاضلية تَحكم مختلف الفضاءات الثقافية".
ولكن هل يجعل هذا التداخل الحميم من الروايات الفرنكفونية مجرّد كلام فرنسي عن المتخيَّل العربي؟ أم إنه إسهام حقيقي في إغناء القصِّ الفرنسي وتجديده؟
تجدر الإشارة أولاً إلى أنَّ التقبّل العام لهذه الروايات إيجابيٌّ، يُترجمه الاعتراف الرسمي، عبر مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام، وقبلهما سلطة النقد الأدبي، وكذلك عبر إسناد الجوائز، وآخر المكرَّمين بها ليلى سليماني، التي حازت على "جائزة غونكور"، وعبر إلحاقهم بالأكاديمية الفرنسية؛ أمين معلوف سنة 2015، وقبله آسيا جبار سنة 2005.
ومن مظاهر هذا الاعتراف أنَّ النقد الأدبي خصّص لهذا الجنس اسماً حصرياً: "الرواية الفرنكوفونية"، تمييزاً له عن الروايات التي يكتبها الفرنسيون "الأصليون". ثمَّ أكَّدَ هذا الاهتمامَ المعرفي بأن قَرأه من خلال إشكالية طريفة أطلق عليها النقاد مصطلحَ hybridité وهو مَفهوم إجرائي يصف الامتزاج والتداخل بين صيغ الخطاب وموضوعاته، إقراراً بقدرة هذا الأدب المُهَجَّن/الهجين ذي المرجعيات العربية على تجديد المتخيل الروائي الفرنسي، وبث حياةٍ ثانية فيه، بتنويع أساليبه وصور الكتابة فيه.
على أنَّ هذا الاعتراف قد يخفي شطط الثمن الباهظ الذي قدّمه كتابنا: فثمَّةَ شعورٌ متنامٍ بأن الروايات الفرنكوفونية تتاجر ببعض عناصر المتخيل العربي بما يتلاءم مع آفاق انتظار القارئ الفرنسي ونقّاد الأدب عندهم، حتى كأننا أمام توافقٍ ضمني يربط التألق الأدبي بتناول ثيمات بعينها، يدور جلها حول موضوعات مستهلكة مثيرة: كتهميش المرأة في المجتمع العربي، وقضايا الكبت الجنسي، والإرهاب والتشدّد الديني، والهجرة والهوية المستباحة وغيرها، وهي محاور تناسب الاستراتيجيات التجارية لدور النشر الساعية إلى السبق الإعلامي والربح المالي.
كما تساهم هذه النصوص في ترسيخ ذات الصورة النمطية القاتمة عن العرب والواقع المغاربي في بؤسه، وحرمانه، مع إغفالٍ يكاد يكون مقصوداً، لمظاهر التحوّل التي حصلت في تلك المجتمعات والنقاط الإيجابية فيه.
فلمَ يكون ثمن التألق في المشهد الفرنسي الإيغالَ في تشويه الواقع العربي والمزايدة في موضوعات الجنس والدين والقمع السياسي، مع أنَّ إسهامَ هؤلاء الكتاب العرب في تطوير جنس الرواية الفرنسية لا يقتصر على مجرّد ترجمة مخيلاتهم وذاكراتهم، ولا على النقل الحرفيّ لتجاربهم، ولكنه بحث أصيلٌ في شعرية السرد، المتخفية بين عالمَين ونظامين رمزيين: البيئة العربية بأثاثها التقليدي، وقيم المعاصرة بترفها المادي والرقمي.
يختط دروبَ هذا العناء الأسلوبي أدباء مهاجرون، ذوو تكوين ممتزجٍ وثقافة مزدوجةٍ، يطبعون من خلاله لغةَ موليير بسيماء المرجعيات العربية وأنماط حَكْيهم وأساليب قصِّهم.
في رحلة التمازج بين الثقافتين العربية والفرنسية، سَقط البعض في فخاخ الشهرة السريعة والتلاعب بمناطق المحظور وفضاءات المنع والرعب. وأطلق بعضهم الآخر، وهم الأقل، عنانَ القريحة لِتُذكِّرَ نصوصُهم بشاعرية العربية وقد تزيَّنت بنصاعة الفرنسية التي تجدّدت لطافتها بنغمات الفصحى وإيقاع صورها. وهل الرواية سوى سؤال في ثنايا السرد، لا يُمتع المضمون الفكري فيه إلا عرضاً؟