ربما تكون الصور المتناقلة لوزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان، برفقة مبعوث الرئيس الأميركي لدى التحالف الدولي بريت ماكغورك، في أرياف الرقة السورية بين المقاتلين الأكراد أمس، عيّنة عما ينتظر هذه المحافظة العربية بغالبيتها الساحقة، من صراع على النفوذ، قد يكون أساسه تقارب سعودي ليس بجديد من أكراد سورية. تقارب سعودي كردي سبق أن تمت تجربته في العراق، وكانت نتيجته سلبية على أكراد ذاك البلد، مع الفوارق الكبيرة الموجودة بين الحالتين. لكن ربما لا يزال من المبكر رسم صورة النفوذ في محافظة الرقة والمدينة التي تحمل اسمها، ذلك أن العنوان الأبرز في المدى المنظور سيبقى محصوراً بمن يديرهما ومن يعيد إعمارهما.
وما ان انتهت الحرب ضد تنظيم "داعش" في الرقة، حتى بدأت أسئلة كثيرة حول عملية إعادة الإعمار بعد الحرب التي دمرت غالبية بيوت المنطقة ومنشآتها. مصدر هذه الملابسات تتصل بالجهة التي ستموّل عملية إعادة الإعمار وتلك التي ستتولاها على الأرض، وما هو مصدر المواد والتجهيزات التي تستلزمها العملية، في ظل إبعاد النظام السوري عن المدينة حتى الآن. وهو ما يقود إلى طرح مزيد من الأسئلة حول الجهة التي ستتولى إدارة المدينة بعد طرد "داعش" منها، في ضوء معطيات بأن قوات التحالف الدولي ومعها المليشيات الكردية التي قادت العمليات العسكرية ضد التنظيم طيلة الأشهر الأربعة الماضية، ستحاول تكرار تجربة مدينة منبج في ريف حلب، عبر فرض "مجلس محلي" تديره من خلف الستار، علماً أنه ليس ثمة وجود كردي في المدينة أصلاً.
وجاءت أولى الخطوات بالتزامن مع استسلام آخر مجموعة من عناصر "داعش" في الرقة، إذ اجتمع ماكغورك مع رؤساء وأعضاء "مجلس الرقة المدني"، بهدف الاطلاع على خطة الأعمال التي سيقوم بها بعد إعلان تحرير المدينة، وتأكيد دعمهم إعادة بناء الرقة وتقديم المساعدات لهم في كل المجالات.
وخلال الاجتماع الذي حضره بعض شيوخ العشائر العربية، قالت الرئيسة المشتركة لـ"مجلس الرقة المدني" ليلى مصطفى، إن المجلس ناقش أهم المستلزمات والآليات التي يحتاج إليها المجلس من أجل إعادة الإعمار، فيما أكد ماكغورك دعم بلاده لجهود المجلس في التنظيم والأعمال.
ورأى عضو المجلس، فراس ممدوح الفهد، لـ"العربي الجديد"، أن زيارة ماكغورك إلى مقر المجلس في عين عيسى (شمال الرقة بنحو 60 كيلومتراً) للمرة الخامسة وإشادته بنشاط المجلس خلال الأشهر الماضية، هي بمثابة اعتراف دولي بالمجلس ودوره في إعادة إعمار الرقة. وأكد أن أول مهام المجلس ستكون إزالة الألغام ورفع الأنقاض تمهيداً لعودة الأهالي، نافياً وجود هيمنة كردية على المجلس، إذ إن هناك عضوين كرديين فقط من أصل 12 عضواً في رئاسة المجلس.
وكانت "سورية الديمقراطية"، أعلنت في أبريل/ نيسان الماضي عن تشكيل هذا المجلس مع بدء عملياتها العسكرية في الرقة، وذلك بدعم من واشنطن وبالتعاون مع ممثلين عن مكوّنات محافظة الرقة، كي يتولى إدارة المدينة وريفها، فور طرد تنظيم "داعش".
ويضم المجلس أكثر من مائة شخصية من وجهاء العشائر والشخصيات السياسية والثقافية وأصحاب الكفاءات المهنية، وتتولى قيادته رئاسة مشتركة عربية-كردية برئاسة ليلى مصطفى، وهي كردية كانت تقيم في الرقة، إضافة إلى الشيخ محمود شواخ البرسان، وهو أحد وجهاء عشائر الرقة. ولاقى تشكيل المجلس في حينه انتقادات من قِبل المعارضة السورية التي عبّرت عن خشيتها من أن تكون مهمته مجرد تأمين الغطاء العربي لـ"وحدات حماية الشعب" الكردية للسيطرة على المحافظة، والسعي لضمها للفيدرالية التي أعلنها الأكراد في وقت سابق في الشمال السوري. وشكّل المجلس 14 لجنة لتسيير شؤون المحافظة، وبدأ عمله منذ ذلك الوقت في بعض مناطق ريف الرقة.
وأكد نائب قائد التحالف الدولي روبرت جونز، أن التحالف "جاد بدعم مجلس الرقة المدني الموجود في عين عيسى، وهو المجلس الذي سيدير الرقة، وسيحصل على ما يحتاج ليساهم بإعادة دور الحياة إلى طبيعتها في المناطق المحررة من داعش". وكانت وزارة الخارجية الأميركية أعلنت، الثلاثاء، أن الولايات المتحدة سوف تتصدر جهود المساعدة في إزالة الأنقاض واستعادة الخدمات الأساسية في الرقة.
من جهته، قال رئيس لجنة الإعمار في مجلس الرقة المدني، إبراهيم الحسن، في تصريحات صحافية إن من أولويات اللجنة رفع الأنقاض وإعادة تأهيل شبكة المياه وخطوط الكهرباء، وتأهيل المراكز الصحية لعودة النازحين، مشيراً إلى أن اللجنة تنتظر إعلان تحرير المدينة لتباشر أعمالها بإعادة إعمار البنى التحتية، إذ ستقوم بتقسيم المدينة إلى 8 قطاعات لإعادة إعمارها، تبدأ من حي المشلب شرق المدينة باتجاه الداخل. وأضاف أن من أولوياتها إعادة تأهيل البنى التحتية، وإزالة الأنقاض، وإعادة تأهيل شبكتي الماء والكهرباء وتجهيز المراكز الطبية وإعادة تأهيل المدارس. وأوضح أن اللجنة تمكّنت خلال الفترة الماضية من إعادة إعمار مدارس وجسور عدة تعرضت للتدمير في ريف الرقة. وأوضح أن الدول المانحة وعدت خلال اجتماع روما الشهر الماضي بتقديم الدعم لهذه العملية، مشيراً إلى أن اللجنة ستستلم خلال الأيام القليلة المقبلة 56 آلية من قوات التحالف من أجل إعادة إعمار المدينة.
والواقع أن عملية إعادة إعمار الرقة لن تكون سهلة، خصوصاً أن نسبة الدمار عالية جداً فيها، فيما لا تتوفر المصادر والمواد الأولية والخبرات الضرورية على افتراض توفر السيولة المالية، في ظل عدم توفر هذه الموارد في المناطق التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية". هذا الأمر يتطلب استقدام الموارد إما من مناطق سيطرة النظام أو من العراق المجاور، بما في ذلك إقليم كردستان، خصوصاً ما يتصل بتأمين الخبرات والمعدات لمشاريع كبيرة مثل سد الفرات المتوقف عن إنتاج الكهرباء حالياً، فقد عمد مقاتلو "داعش" إلى تفجير مولدات الكهرباء قبل انسحابهم من المكان، فضلاً عن تأمين الإسمنت والحديد والمتطلبات الأخرى المطلوبة على صعيد إعادة الإعمار.
ومن المرجّح، وفق رئيس لجنة الإعمار في المجلس المدني في الرقة، استيراد معظم مواد البناء اللازمة لمشاريع الإعمار من إقليم كردستان، من دون أن يستبعد إمكانية الحصول على إمدادات من مناطق تحت سيطرة قوات النظام في حلب ودمشق.
وفيما تقدر مصادر عدة نسبة الدمار بـ80 في المائة من المدينة، قلل عضو المجلس المدني فراس ممدوح الفهد من النسبة، ورأى بعد زيارته للمدينة أنها لا تتجاوز 60 في المائة، مشيراً عبر صفحته على "فيسبوك" إلى أنه سيُسمح بعودة الأهالي إلى مفرق الجزرة، وقريبا جداً إلى حي المشلب.
وحذرت منظمة "إنقاذ الطفل" من أن انتهاء العمليات العسكرية في مدينة الرقة لا يعني انتهاء الأزمة الإنسانية المتفاقمة في المنطقة. وقالت مديرة المنظمة في سورية سونيا خوش، في بيان لها، إن "نحو 270 ألف شخص فروا من القتال في الرقة ما زالوا بحاجة ماسة إلى المساعدات"، في وقت تضيق المخيمات بعدد كبير من النازحين. وأوضحت أنه لم يعد لدى معظم عائلات الرقة منازل للعودة إليها، فيما لا يزال الآلاف مشردين في محافظة دير الزور المجاورة، والتي تشكل منذ أسابيع مسرحاً لهجومين منفصلين ضد عناصر التنظيم.
وتسببت الاشتباكات والغارات التي نفذها التحالف، في دمار كبير بالأبنية والطرق والبنى التحتية. ويشكّل نزع الألغام التي زرعها تنظيم "داعش" في الأحياء والمؤسسات وحتى داخل المنازل، أولوية أمام جهود إعادة الإعمار، ويأتي بعد ذلك رفع الأنقاض والنفايات، ثم إعادة تأهيل شبكات المياه والكهرباء والصحة والمدارس.
ونقلت "فرانس برس" عن مسؤول أميركي عن العمليات الإنسانية في سورية أن الحكومة الأميركية والتحالف الدولي "ملتزمان بمشاريع قصيرة المدى وسريعة الأثر، لإعادة الحياة إلى الرقة بعد طرد داعش منها". وتشمل هذه المشاريع دعم عمليات نزع الألغام في البنى الحيوية كالمدارس والمستشفيات وتوفير الدعم الغذائي والصحي. وأضاف المسؤول في الوقت ذاته "لكننا لسنا هنا إلى الأبد لإصلاح كل شيء. لا مال لدينا أو رغبة في قضاء عشرين عاماً في نزع الألغام من المنازل".
ويرى مراقبون أن مسألة إعادة الإعمار في سورية بشكل عام تخضع في الظروف الراهنة إلى حسابات مختلفة. وبينما تسعى روسيا وإيران الداعمتان لنظام بشار الأسد إلى أخذ حصة كبيرة من العملية، خصوصاً في القطاعات الاستراتيجية، فإن المجتمع الدولي الذي لديه موارد وقدرات أكبر، ما زال يتحفظ على دعم أية جهود في سياق إعادة الإعمار طالما بقي نظام الأسد في الحكم. وعبّر عن هذا الموقف أخيراً وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، والذي قال إن بلاده والولايات المتحدة والدول الأخرى لن تدعم عملية إعادة إعمار سورية إلا بعد حدوث انتقال سياسي بعيداً عن نظام الأسد.