الرسم على الزجاج: مسارات الحرفة

10 ابريل 2017
رسم "ملاقاة الملك الظاهر بيبرس ومعروف"، أبو صبحي التيناوي
+ الخط -
تطرّقنا في مقالتنا السابقة إلى لوحة الفنان الشعبي السوري أبو صبحي التيناوي (1884-1973)، وإلى طريقة تقييمها من قبل الصحافة والكتّاب المحليين، كذلك إلى تقييمه هو نفسه. وربما كي نعطي صورة أوضح عن فكرتنا، نتابع هنا موضوعنا بإلقاء نظرة مكثفة على تاريخ الفن الذي مارسه التيناوي وعن بعض خصائصه التقنية.

إن فن الرسم على الزجاج الذي اشتهر به التيناوي في سورية هو من الفنون الشعبية التي ولدت في القرن الرابع عشر، وتطور في مراكز صناعة الزجاج الهامة، خاصة في إيطاليا، ثم بعد ذلك في بوهيميا وفي ألمانيا، حيث كان يجري تصوير مواضيع دينية بالدرجة الأولى ثم شعبية. ومن بوهيميا، وصل هذا الفن بسرعة إلى بلاد أوروبا الأخرى، ولم يلبث أن انتشر في كامل حوض البحر المتوسط ليصل بالتالي إلى سورية عن طريق العثمانيين.

قبل لوحات التيناوي، عرفنا في دمشق بعض الأعمال من الخط أو تشكيلات زهرية أو هندسية. وليس هناك شك بأن هشاشة الحامل وغياب الدراسات حول هذا الفن يجعلان من الصعب جداً الوصول إلى خلاصة حول طريقة وصوله أو الفنانين الذين مارسوه، لا سيما أن النماذج الموجودة غير موقّعة. فقد كان هؤلاء يمارسونه كحرفة وربما كمهنة أخرى إلى جانب مهنتم الأصلية، فالتيناوي مثلاً كان يمتلك دكاناً متواضعاً لبيع الأدوات المنزلية.

وقد كان هذا الفن فناً وظيفياً، له غاية شفائية أو دينية. ولا يختلف الأمر كثيراً في بلاد الشرق، فالوظائف هي نفسها إن كان الأمر يتعلّق بمشهد ديني كالبُراق أو تخطيط لآية قرآنية أو حديث شريف، أما إذا كان الأمر يتعلّق بمشاهد من السير الشعبية فتأتي هنا رغبة المقتني، والفنان أيضاً، في تزيين بيوتهم بذلك المثل البطولي المحبب.

إن طريقة العمل أو تقنية هذا الفن بسيطة جداً، فهي تشتمل على تلوين وجه من لوح زجاجي، أما الوجه الآخر غير الملون فيُظهِر اللوحة عبر سماكة الزجاج. واللوح الزجاجي هو في الوقت نفسه الحامل وما يكشف الصورة.

يبدأ تنفيذ العمل بشكل عام برسم الخطوط السوداء العامة التي تحيط بالأشكال المراد رسمها، وغالباً ما تكون محضّرة على ورق وموضوعة تحت لوح الزجاج ليتم إعادة نسخها. فالفنان الشعبي غالباً ما يكون لديه نماذج ورقية متعددة من الرسومات يقوم بتكرارها. وبما أن الرسم سيُرى من الجانب الآخر للزجاج وليس من الجهة المرسومة والملوّنة، فوجب بالتالي العمل بطريقة معاكسة.

هكذا، فإن الخطوط وكذلك التفاصيل التي توضح في البداية هي التي تظهر في الطبقة الأولى أو واجهة الرسم، على الوجه الآخر للوح الزجاج. وبما أن الرسم يُرى من الوجه الآخر للّوح الزجاجي، فغالباً ما يكون الرسام مجبراً على وضع مخططه الذي يريد نقله على اللوح الزجاجي بشكل مقلوب.

كانت هذه العملية تفضح أحياناً الرسام عندما كان يوقع أو يكتب اسمه على الرسم من دون أن يدرك أنه كان عليه الكتابة بالمقلوب. فالتيناوي على سبيل المثال ارتكب هذا الخطأ عدة مرات. بعد ذلك يتم وضع الألوان كل لون وحده من دون مزجه مع لون آخر في غالب الأحيان. وهي عادة ما تكون عبارة عن درجات لونية نقية من الألوان الصناعية. بعد ذلك، يُترك العمل حتى تجفّ ألوانه قبل أن يؤطّر بشريط من الورق اللاصق، والذي يلصق في آن معاً على طرف الزجاج وعلى قطعة من الكرتون.

وعندما تنتهي اللوحة، يلصق الفنان خلفها ورقة من الكرتون، أو أحياناً من الورق المذهب والمفضّض لكي يضيء بخلفية مشعّة بعض الأجزاء منها التي تركت من دون تغطية باللون.

بشكل عام، نلاحظ أن المواضيع المرسومة في كل مكان وُجد فيه هذا الفن الشعبي متشابهة إلى حد كبير. كذلك من ناحية أسلوب التلوين، فالوجوه والأيدي للأشخاص تظلّ من دون لون فتأخذ لون الورقة التي تحمي العمل من الخلف والتي غالباً ما تكون بيضاء. وهذا ما نجده في رسوم التيناوي وفناني تونس مثلاً وفناني الأيقونة في رومانيا الذين مارسوا هذا الفن قبلنا بأربعة قرون.

كذلك هو الأمر بالنسبة إلى طريقة رسم أجزاء الوجه أو الأيدي بخطوط سوداء ساذجة، حيث نجدها أيضاَ في بعض الرسوم الأرمينية التي نفّذها فنانون شعبيون، سواءً تلك التي تزين الكتب الدينية أو المستقلة في أعمال خزفية.

ومن الواضح أن الرسامين يخضعون إلى طلبات الزبائن فينفّذون هذه الأعمال بـ "الجملة"، بأسلوب معتنى به أحياناً، ومستعجل في أحيان أخرى، بحيث كانت تظهر في الموضوع نفسه اختلافات في النوعية من رسم إلى آخر. كما كانوا ينسخون عن مطبوعات موجودة في الأسواق الشعبية والمطبوعة في بلدان عربية وإسلامية مجاورة.

وما كان مدهشاً حقاً أن الرسم الذي كان يُنسخ ويكرر بدلاً من أن يصبح أفضل بفعل الخبرة والممارسة، كان يصبح أقل جودة. نلحظ هذا في نسب الأشكال التي تتبدّل لتصبح أكثر سوءاً في النسخ الجديدة. وإن دلّ هذا على شيء فهو يدلّ على استعجال الرسام الانتهاء من عمله: فهل هذا يؤكّد أنه حرفي قبل أن يكون فناناً؟ وهل من يكرّر المواضيع بغرض البيع نستطيع الزعم أنه فنان يعبر عن نفسه أو عن هموم مجتمعه أو...؟

*فنان تشكيلي سوري

المساهمون