استطاع الطبيب وعالم النباتات الألماني ج. او. هابنسترايت أن يغادر الجزائر إلى تونس بعد أن توقع وقوع حرب وشيكة بين الداي، حاكم الجزائر والإسبان.
لقد عزم الإسبان في تلك الفترة على مهاجمة وهران، وهذا ما تم، وكانت النتيجة أنهم تمكنوا من إخضاع المدينة. مما جعل السكان يشعرون بالعداء نحو الأجانب والأوروبيين على وجه التحديد.
وبالتالي، فإن انتقال الرحالة الألماني إلى تونس، بناء على مخطط مسبق كان في محله. كانت تونس في تلك الفترة من عام 1732، تحت حكم البايات، والذين بذلوا جهدا كبيرا من أجل إخضاع المناطق الثائرة خارج العاصمة تونس.
يولي هابنسترايت اهتماما شديدا لفن العمارة، ويعبر عن إعجابه بالعاصمة تونس وعمارتها
فقد قضى الباي حسين بن علي فترة كبيرة من حكمه في محاولة منه لإخماد تمردات القبائل وغاراتها التي تهدد التجارة الداخلية بالأساس. يرسم هابنسترايت لوحة متعددة الأوجه لتونس ولهذا الشعب، الذي يصفه بأنه "شعب طيب ومسالم".
كما يفسر الأهمية الجغرافية للعاصمة تونس وموقعها الاستراتيجي في منطقة البحر الأبيض المتوسط. فهذا الحوض البحري كان على مرّ التاريخ منطقة حروب ونزاعات إقليمية، من ورمان وبيزنطيين وإيطاليين وفرنسيين، حاولوا أن يؤبدوا سلطتهم على المنطقة، لكنهم انتهوا مدحورين، مطاردين في أعماق الأبيض المتوسط. من ناحية أخرى، يقدم الرحالة الألماني، تشريحا حيا لمفاصل السلطة في تونس، وكيف يجري اختيار الباي لحكم محرم عليه أن ينقله إلى ورثته. في حين أن حياة الباي نفسه محفوفة بالمخاطر وشبح الاغتيال، التي تتهدده عند كل زاوية، حتى من أقرب مقربيه. بينما السلطة الحقيقية، تعود للجيش وقواده، الذين اختاروه لتولي هذا المنصب القدري.
نعثر في القسم المخصص لتونس من الرحلة، على مشاعر الافتتان بهذه المدينة التي يظهر على مسوحها وجغرافيتها ما مر عليها من حروب ومن حضارات صهرتها وصهرت بشرها، فتحول الإنسان التونسي إلى كائن لطيف منفتح ومتفهم. وهذا ليس غريبا، حيث كما يقول هابنسترايت، كان اللسان الإيطالي شديد الشيوع في تلك الفترة، وكانت النخبة في الغالب الأعم قد تلقت تعليمها وتربيتها على أيدي الأسرى الأوروبيين. ومن ثم، كانت مشاعر الطبقة السياسية والحاكمة في تونس أقرب إلى تفهم الأوروبيين أكثر من معاداتهم، كما هو الحال بالنسبة للجزائريين، على حد توصيف الرحالة الألماني.
يكتب عن تونس: "أما مدينة تونس، فتعتبر بعد القاهرة والإسكندرية من أكبر مدن أفريقيا، وأحسنها بناء، وهي تقع في سهل جميل، وهذا ما جعل منظر المدينة أكثر لطافة وحسنا، ومما زاد في جمال مظهرها الجامع الرائع الذي أنشأه الباي الحالي، وتولى بناءه مهندس فرنسي جعل تصميمه يماثل قبة الأنفليد بباريس.
كانت مشاعر الطبقة السياسية والحاكمة في تونس أقرب إلى تفهم الأوروبيين أكثر من معاداتهم
أما موقع مدينة تونس فمتميز جدا، إذ يقع على حافة بحيرة تتصل بالبحر بواسطة قناة، وهذا ما جعل الحركة التجارية مع المدينة سهلة وسمح بوصول المسافرين والبضائع إليها بواسطة سفن تستعمل المجاديف، بينما السفن الكبرى التي تتطلب مياهاً عميقة تتوقف على مسافة منها، مما أبقى المدينة في منأى عن قنابل السفن الأوروبية عكس مدينتي الجزائر وطرابلس المعرضتين مباشرة لهذه القنابل، لكونهما تقعان على شاطئ البحر.
يبعد ميناء تونس عن المدينة بفرسخين، ويدافع عنه حصن يعرف بقلعة حلق الوادي، وهذا الحصن يحمي أيضا القناة التي تصل البحر بالبحيرة المتاخمة لمدينة تونس، وهذا ما جعله بمثابة القلعة التي تدافع عن المدينة، فقد تصدى طويلا لقوات شرلكان سنة 1535 عندما بادر هذا العاهل بإعادة مولاي حسن ملك تونس الذي كان تحت حمايته إلى مملكته بعد أن طرده منها القرصان المشهور بربروسة".
فن العمارة
يولي هابنسترايت اهتماما شديدا لفن العمارة، ويعبر عن إعجابه بالعاصمة تونس وعمارتها، يقول: "إن تشييد قلعة حلق الوادي تسبب في اختفاء ما بقي ماثلا من أنقاض قرطاج، فقد خربت من أجل بنائها أجمل الأعمدة وأقواس النصر ومنشآت أخرى. وقبالة هذه القلعة، يوجد حصن آخر بني على جبل غرب المدينة لتعزيز الدفاعات عنها. هذا ويجلب الماء إلى مدينة تونس بواسطة الحنابي التي تتميز بهندستها الجميلة وهي مكونة من مجموعة من الأقواس العالية.
أما منازل المدينة فهي كبقية بيوت شمال أفريقيا سقوفها مسطحة، وهي في مجملها مكسوة بالجبس حتى يمكن أن يتجمع فيها ماء المطر، وينقل عبر قنوات ليحفظ في صهاريج تحت الأرض، وتستخدم هذه السطوح أيضا كأماكن للنوم في ليالي الصيف الحارة، أما البيوت فهي نظيفة وجدرانها مغطاة بمربعات الزليج الملون، ومفروشة بالزرابي مما يعطي للمرء إحساسا بالراحة والانشراح لتناسق أشكالها وجمال ألوانها.
حساسية العاصمة
لتونس العاصمة كموقع وكعاصمة حساسية بالغة، وبقدر ما أن المدينة محصنة وغير مكشوفة مثل مدينة الجزائر أو مدينة طرابلس، فإنها كانت عرضة للغزاة، ولهذا يقول هابنسترايت: "يتجنب الباي الإقامة بمدينة تونس، فهو مستقر بقصره بقلعة باردو الواقعة على بعد فرسخ من المدينة، وقد وجدنا هذا المكان المحصن طريفا جدا في هندسته ورائعا في منظره، يتميز بنظافة غرفه المزخرفة وبأحواض الرخام والسواقي الكثيرة التي توجد فيه.
يعقد به مجلس الأمير بأحسن نظام، ويقضي فيه الباي وقته، وقد يفضل الإقامة في خيمة وسط معسكره، كما وجدنا عندما التقينا به في باجة، على الذهاب إلى مدينة تونس خشية أن يتعرض للقتل، وهو المصير الذي يتربص بالبايات من طرف منافسيهم وأعدائهم. يطلق على رئيس الحكومة بمملكة تونس تسمية الباي، وهو لقب عسكري يعرف به عادة قائد الجيش أو رئيس الفرق العسكرية المتجولة في الريف(المحلة)، ولكون السلطة الحقيقية بيد ضباط الحامية أو الوجاق، فإن الداي بتونس يخضع للباي، ويكلف برئاسة الديوان حسب الصلاحيات المحددة له، ويليه في المرتبة الشرفية الكاهية، وهو المكلف بتطبيق أحكام العدالة، بحيث يقوم بتنفيذ الأحكام فورا ويتم الفصل في كل القضايا بسرعة، وغالبا ما يكون العقاب ضربا بالعصا، أما المسيحيون فيفصل في شؤونهم القناصل التابعون لهم، بينما يتولى أمر اليهود أحد القضاة العارفين بشؤونهم".
الخوف من الاغتيال
لا يضع الباي ثقته حتى في أقرب مقربيه، خوفا من الاغتيال، لذلك فهو دائم الترحال من مكان إلى آخر، وأحيانا كثيرة يهجر قصر باردو بما فيه من رفاه، كي يعيش بين جنوده، أو وسط الحامية العسكرية محروسا، وذلك لتجنب مصير من سبقوه إلى الملك. يكتب هابنسترايت: "يتألف ديوان مملكة تونس من الآغوات والبلوكباشيات والأوداباشيات ويرأسهم الداي أو الكاهية، ويتداولون في المسائل العامة، ويبدون رأيهم في القضايا الخاصة، بينما يتولى السلطة الفعلية الباي الذي مضى على توليه الحكم سبع عشرة سنة، وقد آلت إليه مقاليد الإيالة إثر اغتيال سلفه إبراهيم الشريف وهو في طريقه عائدا من الجزائر حيث كان أسيرا. وهذا ما جعل الباي في خواف دائم من أن يلقى مصير سلفه".
لا ثقة حتى في الأبناء
الداي حسين بن علي شخص حذر، حتى من أقرب مقربيه، ويشمل ذلك حتى الأبناء والدائرة الصغيرة، يروي هابنسترايت: "لقد شاهدنا علي باشا عندما كان في السجن بالجزائر، والذي كان أعلن الحرب في فترة سابقة على أبيه بمساعدة من سكان الجبال والتحق بالجزائر طلبا للعون من حكومتها، ولكنه وضع في السجن بطلب من أبيه باي تونس، لأن هدايا الباي كانت أكثر تأثيرا على ديوان الجزائر من توسلات ابنه علي باشا.
ومما يلاحظ في هذا الشأن أن أبناء الباي ليس لهم الحق في خلافة آبائهم في منصب الباي، بل الجماعة الأقوى في الأوجاق هي التي تختار الشخص الذي ترتضيه، ويتولى الديوان المصادقة على هذا الاختيار وليس من الضروري أن يكون الباي من أصول تركية خالصة أي من أب وأم تركيين.
فالكراغلة وهم من آباء أتراك وأمهات عربيات، وكذلك الأعلاج ذوو الأصول المسيحية لهم الحق أيضا في تولي هذا المنصب السامي. ويوجد أيضا في مملكة تونس باشا تبعث به القسطنطينية ممثلا للسلطان، ولكنه موظف شرفي فليس له صوت في الديوان ولا يتولى أية سلطة في الحكومة، والباي يعتبره مجرد وزير مقيم للباب العالي بتونس.
ومن مظاهر سيادة تونس أن مبعوثيها يحظون باستقبال جيد في البلاطات الأوروبية، ويعيَّن لهذه المهام أشخاص ذوو مواهب، خاصة وأن أغلب ضباط المملكة التونسية لهم إلمام باللغات الرئيسية للأمم الأوروبية وأن اللغة الإيطالية الدارجة شائعة بتونس وتكاد تصبح لغة وطنية للبلد، وهي بمستواها القريب من الإيطالية الفصحى، قريبة الشبه بلغة الفرانكة المستعملة في الجزائر والتي نصف كلماتها إسباني.
قرطاج وسواريها العظيمة.
يثني هابنسترايت على أهل تونس، يقول: "يتصف أهل تونس عادة باللياقة، فهم مهذبون جدا لاختلاطهم بالأوروبيين، وكبار القوم الذين أوكلت تربيتهم في الصغر للأسرى المسيحيين يحملون فكرة جيدة إلى حد ما عن الأوروبيين، وهذا ما يجعلهم يوفرون لنا كل أنواع الخدمات، أما الآخرون فلهم نفس القيم والعادات المتبعة في الجزائر، وإن كانت كيفية معاملتهم للأجانب تختلف كثيرا عما هو شائع في الجزائر، فالجزائريون وإن كانوا مؤدبين مع المسيحيين إلا أنهم يحتفظون دائما في أسلوب تعاملهم بما ينم عن الاعتزاز بالنفس وبالبرودة في التعامل، وهو سلوك معهود لدى القراصنة.
ومن مظاهر سيادة تونس أن مبعوثيها يحظون باستقبال جيد في البلاطات الأوروبية
القوة البحرية التونسية قليلة الأهمية، فهي لا تتجاوز بعض السفن الحربية الراسية بمرسى بورتوفارينا، على بعد ثلاثة أميال من تونس، وسفن هذه القوة البحرية من نوع الغليوطات تشكل خطرا على السفن التجارية، وعلى سفن الشحن الصغيرة، وهذا ما يمكنها من الحصول في غالب الأحيان على غنائم من الإسبان والبنادقة والإيطاليين وبعض الدول الأوروبية الأخرى.
وفي هذا الصدد، لم نلتق في تونس بأسرى ألمان ما عدا من لم يكن منهم من رعايا الإمبراطور، بينما نجد الكثير من الأسرى الإغريق والبنادقة، ولعل ذلك يعود إلى أن حكومة تونس هي الآن في حالة سلم مع الإمبراطور وجمهورية جنوة.
لقد غادرت مدينة تونس في يوم 13 سبتمبر 1732، مع ثلاثة ممن رافقوني في سفري، وأثناء ذلك اغتنمت الفرصة التي سنحت لي فوقفت على آثار قرطاج الشهيرة، وهي تقع بالقرب من حلق الوادي حيث كانت السفينة تنتظر الإبحار، فشاهدنا موقع أسوار قرطاج الضخمة ووقفنا على بعض ملامحها التي لا تزال قائمة، وتبين لنا أن المدينة كانت مشيدة على ثلاثة جبال، وأن موقعها عبارة عن شبه جزيرة وهذا ما عزز قوتها. لقد كانت قرطاج في الماضي تهيمن على الشمال الأفريقي وعلى إسبانيا وقسم من إيطاليا، وقد اشتهرت بقوتها البحرية بفضل انتصارات حنبعل على الرومان، ولكنها تعرضت للدمار الشامل لتبنى مدينة تونس وحصنها(حلق الوادي) على أنقاضها، ولعل الصهاريج التي لا تزال ماثلة حتى الآن من بين أنقاضها، تمكننا من أخذ فكرة عن الهندسة المعمارية للقرطاجيين، وهذه الصهاريج تتكون من ستة عشر تجويفا تحت الأرض تتجمع فيها المياه التي تحملها إليها قنوات عديدة، وقد لاحظنا أن هناك مكانا في هذه الأبنية الموجودة تحت الأرض يصدر منه صدى أكثر مما هو متوقع، فطلقة البندقية يحدث بها صدى كدوي الرعد لكون المنطقة المجاورة له مجوفة ولكون باطنها محفوراً كله تقريبا. هذا ما أبقى الزمن على أعمدة وقباب ومخازن أسفل الأرض لمتانة بنياتها بحيث قاومت كل أعمال التخريب فاتخذوها مساكن لهم تحت الأرض كالفئران.
أما النواحي المجاورة لهذه الآثار فقد بدت لنا وكأنها زرعت بحجارة صغيرة من مختلف الألوان كانت تشكل في الماضي جزءا من فسيفساء بلاطات المنازل، كما يوجد في هذا الموقع بعض الجرار الجميلة المصنوعة من الرخام السماقي، والتي استعملت بلا شك في تزيينها بعض العلامات المميزة، وكذلك بعض الأعمدة المهشمة أو المحطمة والتي رأينا أحدها وهو من الرخام ملقى على الأرض بالقرب من قناة حلق الوادي، فشد انتباهنا لصناعته المتقنة والدقيقة وألوانه العجيبة. ولم يكن من السهل علينا ونحن وسط هذه الأنقاض أن نحدد مكان ميناء قرطاج القديم لأن ساحل البحر كله أصبح مغطى بالحجارة".