الربيع العربي والإحباط والكسل الفكري

17 مايو 2014

كلمة الديموقراطية على جدار بشارع في تونس العاصمة (أ.ف.ب)

+ الخط -
مع بداية الثورات العربية في مصر وتونس، ساد العالم العربي جوّ عام من التفاؤل، بدأ يخفت تدريجياً، بمرور الوقت، إلى أن غلبت مشاعر الإحباط عليه، لأسباب ووجوه عديدة. بعض وجوه هذا الإحباط ترافقت مع بدء الحراك نفسه، فكان الحديث عن غياب البرنامج والرؤية السياسية للجماهير المحتشدة في الميادين، كما عن غياب الأحزاب الطليعية القادرة على قيادة هذه الجماهير. كذلك تحدث بعضهم عن غياب أي متغيّرات ثقافية أو مادية، متعلّقة عموماً بأنماط الإنتاج، أو بتبلور صراعات طبقية مستجدّة، من شأنها أن تنتج مثل هذا النوع من الحراك الذي بدا مفاجئاً وخارجاً عن السياق لكثيرين. دفع عامل المفاجأة بعضهم إلى الإسراع في تبني نظرية المؤامرة والعامل الخارجي، باعتبار أن ركود العوامل الداخلية لا يمكن أن يسمح بمثل هذا الحراك، من دون تدخل من العوامل (والفواعل) الأجنبية.

ترسخت نظرية المؤامرة والخارج أكثر، عندما انتقل الحراك إلى الشارع السوري الذي ظن كثيرون أنه في مأمن منه. وأصبح ما يسمى "الربيع العربي" قابلاً للاختزال، بظهور لبرنار هنري ليفي هنا، وزيارة لليزا ديك تشيني هناك.

ويبدو، اليوم، أن هذه الثورات لن تتمكن، حتى في الحالتين المصرية والتونسية، من إزاحة النظام، بل اكتفت بتغيير الرؤوس وبعض الوجوه الأساسية، وهذا، بطبيعة الحال، ينفي صفة الثورة عنها. المشكلة في كل هذه المبررات التي تساق لتدعيم حالة الإحباط، ولتأكيد نظرية المؤامرة، أنها، في مجملها، ناجمة عن كسل فكري (وعن تحيّزات مصلحية بطبيعة الحال)، وليست نتائج منطقية، يمكن استنتاجها من المبادئ الأولية التي ينطلق منها القائلون بها.
ممّا لا شك فيه أن الشارع العربي بدا في بداية الحراك تفكيكياً، فقد ظهرت جماهير الميادين، كما لو أنها تعرف ما لا تريد (ما ترفضه)، من دون أن تعرف ما تريد حقيقةً في المقابل. ويعود هذا بالأساس إلى غياب النخب الثقافية والأحزاب السياسية، القادرة على ترجمة تطلعات هذه الجماهير، في خطاب سياسي شامل. وهذا الغياب، بطبيعة الحال، من خطايا الأنظمة التي قام الحراك في وجهها، وليس خطيئة الجماهير المُطالِبة بالتغيير.

الأهم من هذا، أن غياب القدرة على إنتاج الخطاب السياسي لا يعني، مطلقاً، أن المواطن العربي يجهل ما يريده. فالمآل العام لمطالب المواطن العربي لم يتغيّر كثيراً، منذ أكثر من قرن، وملامحه ترتسم ببساطة في المشروع المؤجل نفسه منذ زمن جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.


مطالب عربية
الهوية، الحداثة والمواطَنة، هي المطالب العربية الدائمة، وهي نفسها التي قام الحراك من أجلها. والأنظمة نفسها التي يرفضها المواطن العربي، اليوم، كانت، في بداياتها، مدركةً لهذه المطالب، وأقامت شرعيتها، بالأساس، على وعد بتحقيقها. فالخطاب الرسمي للأنظمة الانقلابية في الخمسينيات والستينيات كان يركز على الهوية العربية، وعلى فلسطين القضية المركزية، وعلى البنية التحتية والتصنيع والتطور العلمي، كما على العدالة الاجتماعية وتحرير المرأة. وليس في وسع أحد أن ينكر أن هذه الانظمة كانت صادقة، بدايةً، في محاولتها الوفاء بهذه الوعود (التأميم، التصنيع، التعليم العام والجامعات ..إلخ). وكانت المساومة التي أملتها هذه الأنظمة على مواطنيها تقضي بالتخلي عن بعض حقوق المواطنة (لا سيما لجهة الحريات السياسية)، في مقابل تبني باقي الوعود. وعلى الرغم من أن هذه المساومة أُمليت من فوق، إلا أنها لم تكن مرفوضة من الشارع المسكون بباقي الهواجس والهموم. وما أفقد هذه الأنظمة شرعيتها، بمرور الوقت، هو ظهور عدم قدرتها على تحقيق هذه المطالب، في مرحلة أولى، ثم، وفي مرحلة ثانية، ظهور عدم رغبتها في تحقيقها (بدءاً من السبعينيات).

وصول الحركات الإسلامية السريع والمريح إلى السلطة، عبر صناديق الانتخابات في دول الربيع، أكد مجدداً مدى أهمية هاجس الهوية عند المواطن العربي. وكان خطأ الإسلاميين الرئيس افتراضهم أن قدرتهم على تسكين هذا الهاجس كانت كافية، وحدها، لبقائهم طويلاً في السلطة من دون معارضة. وعلى الرغم من أن الحركات الإسلامية حاولت تطوير فكرها السياسي، ليتلاءم مع متطلبات الحداثة والمواطنة، إلا أن عدم جهوزيتها ساهم، بشكل كبير، في عودة النظام القديم. هكذا، فبقدر ما كان وصول الإسلام السياسي إلى السلطة دليلاً على أهمية هاجس الهوية، كان خروجه منها دليلاً على عدم إمكانية إغفال سائر المطالب (الحداثة والمواطنة).

من هنا، فالحراك العربي لم يكن يستلزم ظهور أنماط إنتاج، أو صراعات طبقية جديدة (بالمعنى الماركسي الأرثوذكسي)،  بل كان يكفيه اعتماد الأنظمة سياسات اللبرلة المتسلطة، حتى تكتمل عوامل اشتعاله. كذلك، فإن هذا الحراك الذي لم يكن يبحث عن وعود جديدة، ليس في حاجة إلى أنظمة سياسية جديدة غير مسبوقة عالمياً. ما تطالب به الجماهير العربية لا يختلف كثيراً عن أدبيات حزب البعث، أو المرحلة الناصرية، ولا يزيد عن نسخة محسّنة منها. والمطلوب تعديله إنما يتعلق بالأدلجة التي كانت معتمدة في أواسط القرن الماضي، والتي أوصلت إلى فشل التجربة: قمع الحريات السياسية وفتح الأبواب مشرعة أمام الفساد والاستئثار بالسلطة والموارد تحت ستار الأيديولوجيا. وكان اتخاذ الجماهير العربية من مفردات الحرية والكرامة ورفض الاستبداد، منطلقاً أساسياً لحراكها، دليلاً على فهمها أن الخطأ الأساس الذي أوصلها إلى الواقع الحالي كان في قبولها السابق بالتسوية التي حرمتها من حرياتها السياسية، وليس في باقي الوعود التي لم تتحقق.

العامل الأكثر إسهاماً في تآكل شرعية الأنظمة العربية، وصولاً إلى مفترق العام 2011، هو وقوع هذه الأنظمة في فخ التخلي عن خطابها الأصلي "التقدمي"، وتبني خطاب رجعي بدلاً منه، ظناً منها أنها بذلك تؤجل تآكلها. فدرج، منذ التسعينيات، ترويج أوهام من نوع "الخصوصية العربية". تَركّز الخطاب الرسمي العربي حول أكاذيب من نوع عدم قابلية العرب للعولمة، وعدم جهوزيتهم للديموقراطية وللحرية، وعلى أن انهيار الثنائية القطبية يوجب على العرب التسليم بوضعية العالم الثالث، وبصفة التخلّف المُلازم لهم، وغير الزائل في المدى المنظور، وأيضاً، بطبيعة الحال، القبول بإسرائيل واقعاً دائماً مستمراً في إذلال مشاعرهم القومية، وضرورة (وشرعية) التصالح معها. وكل هذا لم يوجب، من منظور الأنظمة، إعادة النظر في التسوية القديمة، أو مراجعة وضع حقوق المواطنة والحريات السياسية في الأقطار العربية. فجاء الربيع العربي ليواجه الإحباط (والخوف على الهوية) اللذين تسبّب بهما هذا الخطاب الرجعي تحديداً، وليس ليواجه الأدبيات الأصلية للمرحلة الناصرية أو للبعث.


النظرة إلى الجماهير
مجمل ما سبق يدفع إلى الاستغراب الشديد عند ملاحظة أن أشدّ مؤيدي نظرية المؤامرة يأتون من خلفيات عروبية وقومية معادية للغرب. إذ إن من أوليات الفكر القومي الإيمان بجماهير الأمة، وبعقلها الجمعي. فكيف يعقل لمثقف قومي أن يرفض قراءة حراك جماهير الأمة ومطالبها، ويقوم بالمقابل بتقزيم هذه الجماهير، وبتصنيفها غوغاء ورعاع، بإمكان ضابط استخبارات أو أفراد، مثل برنار هنري ليفي، أن يسوقوها كقطعان من الغنم؟ وماذا يبقى من الأمة، ومن الفكر القومي، إن كان الأمر كذلك؟

ليس من العقلاني إنكار قدرة الغرب ورغبته في التدخل في الشؤون العربية، غير أن اختصار كامل المشهد بهذا التدخل، غير عقلاني أيضاً. يصبح واجباً، هنا، التذكير بأن لمجريات الربيع العربي سيرورتها الداخلية المستندة إلى تناقضاتها الداخلية، والتي يلعب فيها العامل الخارجي دوره المتاح له، ضمن قوانينها هي. حيث ينسى، أو يتناسى بعضهم أن الربيع العربي ليس مسؤولاً عن استجلاب العوامل الخارجية التي كانت موجودة وفاعلة، أصلاً، في ظل الأنظمة القديمة.

وينطبق هذا على كل الموبقات التي تفشّت في سورية منذ العام 2011. فلا داعي، هنا، لتأكيد أن المعارضة لا تتحمل مسؤولية الطائفية البغيضة والعنف الدموي، بقدر ما يتحملها النظام. ليس فقط بسبب الأداء الحالي للنظام، بل لأن عقوداً طويلة من حكمه فشلت في إنتاج أي شيء يشبه، ولو من بعيد، عقداً اجتماعياً بين مختلف أطياف الشعب السوري. لم يكن النظام قادراً على ما هو أكثر من كبت هذه الموبقات، وإبعادها عن السطح عبر العنف والقمع. لم يستطع النظام أن يتخلى عن عقلية سرايا الدفاع، في مواجهة أي معارضة، بما فيها تلك السلمية، على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين سنة على إخراج قائد السرايا من البلاد. حاولت الجماهير السورية الإبقاء على الطابع السلمي للحراك، أشهراً طويلة، كانت تواجه فيها الرصاص الحي بهتافات: "سلمية سلمية"، غير أن استمرار العنف غير المبرر من النظام أحدث رد فعل لم يكن ممكناً تلافيه. ولا بد، هنا، من استحضار أدبيات الهوية، فالجماعات تتشبّث بعناصر هويتها التي تراها أكثر عرضة للتهديد. وكلما زاد التهديد، عملت الجماعة على تضخيم هذه العناصر، وتثبيتها وإيلائها الأولوية. ونتيجة أفعال النظام العنفية، يتراجع التهديد المتأتي من إسرائيل (على عروبة المواطن السوري وسوريته)، ويتضخم ذلك المتعلق بهويته المناطقية والطائفية والطبقية. فتصبح هذه العناصر الأخيرة الأهم، وهي موضع التثبيت والأولوية. وبروز هذه العناصر الآنيّ، لا يعني، مطلقاً، غياب باقي العناصر (العروبة والوطنية) أو اندثارها، بل هو يعني إزاحة مؤقتة لها، إلى حين زوال الخطر الآني المحدق. وهكذا، كلما تصاعد عنف النظام ومعالجاته الأمنية تصاعد العنف المقابل، وتصاعدت معهما النعرات الهوياتية ما دون الوطنية.

في الخلاصة، من السهل جداً اللجوء إلى التذمّر الدائم، وجَلْد الذات، واتهام الجماهير بالغوغائية، ووصمها بالرعاع. ومن الأسهل، أيضاً، اعتماد نظرية المؤامرة وصفةً جاهزة لتفسير كل شيء، من دون الحاجة إلى مغادرة حالة الكسل الفكري المستفحلة عند بعضهم، غير أن مقدار هذه السهولة يتناسب طرداً مع مقدار الكارثية في هذا التفكير الذي يعفي أصحابه من محاولة فهم الواقع، ومحاولة التطلّع إلى المستقبل، واستشراف آفاقه وفرصه وعدم تضييعها. هنا، تكمن المؤامرة الحقيقية.
A5921B48-5EC8-4D9C-8517-5D3D634B2D0C
وسيم النابلسي

محام وناشط سياسي واجتماعي لبناني، يتابع دراسة الماجستير في العلوم السياسية، وله مقالات منشورة في الصحافة اللبنانية ومواقع الكترونية.