الربيع العربي وأزمة أوكرانيا.. أوجه مقارنة

24 يوليو 2014

آلاف الأوكرانيين في ميدان الاستقلال في كييف (فبراير/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
حاولت كتابات عديدة إجراء مقارنة بين الربيع العربي وأحداث يورو ميدان في كييف في أوكرانيا، على اعتبار وجود ثورة في هذا البلد مشابهة للثورات العربية في مطالبها وأهدافها. وعلى الرغم من أن المقارنة السطحية بين الحدثين ممكنة، إلا أن تحليلاً عميقاً لجذور الصراع ومجريات الأمور تعكس اختلافات جوهرية بين ثورات الربيع العربي وما يسمى الربيع الأوكراني.

وتبدأ عملية المقارنة بمحاولة تشبيه الأزمة الأوكرانية بالثورة التونسية، حيث فر رئيس الدولة، فيكتور يانوكوفيتش، خارج البلاد، بعد تظاهرات كبيرة في العاصمة كييف، وقرار قيادة الجيش عدم التدخل في الصراع، وهو ما حصل في تونس، أيضاً، حيث فر الرئيس زين العابدين بن علي، بعد تظاهرات حاشدة في العاصمة تونس، وقرار الجيش عدم التدخل. ويعقد البعض مقارنات بين الدور الذي لعبه اليمين القومي المتطرف في أوكرانيا في أحداث يورو ميدان والدور الذي لعبه الإسلاميون في ثورات الربيع العربي، وخصوصاً في المواجهات الدامية بين المتظاهرين وقوات النظام (نموذج معركتي الجمل في مصر والبرلمان في أوكرانيا)... إلخ.  لكن أوجه الشبه تلك لا تتعدى المظاهر السطحية، مع وجود اختلافات جوهرية في طبيعة الصراع ودور الأطراف الداخلية والدولية، في مجريات الأمور وتطوراتها. 

وعلى الرغم من أنه يمكن القول إن الأزمة الأوكرانية الحالية وثورات الربيع العربي تشيران إلى نهاية حقبة تاريخية وبداية أخرى جديدة، وأنها علامة فارقة على نهاية أنظمة سياسية معينة في تلك البلدان، سواء أنظمة ما بعد الاستقلال العربية أو النظام الأوليغارشي الأوكراني، وصلت إلى الطريق المسدود، وأصبحت عاجزة على الاستمرار، فإن بنية تلك الأنظمة السياسية ودورها الاقليمي والدولي وبنية المجتمعات كلها أمور تختلف جوهريا. فقد وصل النظام الأوليغارشي الأوكراني إلى نهايته قبل عقد، مع تصاعد الصراع إلى السطح، وعجزه عن إيجاد توافق معين بين أركانه، من جماعات الضغط والأحزاب المختلفة وحلفائها الاقليميين والدوليين.

وانتهى هذا الصراع إلى الانفجار، في أعقاب الانتخابات الرئاسية لسنة 2004، واندلاع ما عرف بالثورة البرتقالية، والتي عجزت عن إيجاد نظام سياسي واقتصادي جديد، فانتهت بالفشل عقب صراعاتٍ داخلية عصفت بها، ونجاح الطبقة الأوليغارشية في الحفاظ على امتيازاتها وإعادة صياغة التحالفات الداخلية والدولية، للحفاظ على تلك المصالح. ما أدى، في النهاية، إلى موت السياسة لدى المواطنين، وفقدان ثقة
الجمهور في الطبقة السياسية ووعودها، إضافة إلى الوضعية الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها كثيرون، خصوصاً في صفوف الشباب، حيث تنتشر البطالة وضعف الأجور وغلاء المعيشة، يضاف إلى ذلك الانقسام العمودي في المجتمع الأوكراني بين معسكري الشرق والغرب، والناطقين باللغتين الروسية والأوكرانية، مع التوظيف المكثف للخطاب القومي في اللعبة السياسية والصعود المدوي لليمين القومي المتطرف...إلخ، كلها عوامل أدت إلى وصول البلاد، ونظامها السياسي والاقتصادي، إلى طريق مسدود، وانتظار الفرصة المناسبة لتفجير الوضع، وهو ما يهدد بتفجير الدولة وتقسيم البلاد في ظل مجتمع منقسم على نفسه.

وعلى الرغم من أن الصراع الحالي في أوكرانيا بدأ، أول الأمر، على شكل خلاف حاد بين أركان النظام ومعسكريه الشرقي والغرب، بشأن المصالح الاقتصادية والمالية لكل طرف، من خلال الفوائد المترتبة عن عقد الاتفاقيات التجارية والاقتصادية مع القوى الإقليمية الكبرى (روسيا والاتحاد الأوروبي، فإن المشكلات والأزمات الداخلية للنظام الأوليغارشي الأوكراني، نفسه، أدت إلى تفجير الوضع القائم برمته، حين اعتقد بعضهم في المعسكر الغربي بأنه في وسعهم إعادة سيناريو الثورة البرتقالية، في أحداث يرورو ميدان ورفع لواء التوجه غرباً والاندماج مع الاتحاد الأوروبي، باعتباره حلا لكل مشكلات أوكرانيا، وتحميل مسؤولية كل الأزمات للهيمنة الروسية والموالين لها في المعسكر الشرقي.
هكذا بدأت الأزمة الأوكرانية الجديدة، لكنها سرعان ما تطورت، وأخذت أبعاداً أخرى جديدة، لم تكن واردة في ذهن الذين خططوا لها في بداية الأمر، مع ركوب اليمين القومي المتطرف عليها، لتنفيذ أجندته السياسية الخاصة، والمعادية للطبقة الأوليغارشية، وتدخل القوى الإقليمية الفاعلة في الأحداث، للحصول على حصتها من الكعكة بالقوة، في ظل الصراع الجيوسياسي والاستراتيجي، والذي تطور إلى ما يشبه المواجهة المفتوحة بين روسيا والغرب.

أما في المنطقة العربية، فقد وصل النظام السياسي لدولة ما بعد الاستقلال (يسميها بعضهم الدولة الوطنية أو الدولة القُطْرِية)، إلى الطريق المسدود، عقب انهيار أسسه الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تمنحه القدرة على الاستمرار مدة زمنية أطول. وقد بدأت أزمة النظام السياسي العربي، منذ عقد الثمانينيات من القرن العشرين، في عدد من بلدان المنطقة، خصوصاً الدول غير المنتجة للنفط، وترسخت أكثر في العقد التالي، قبل أن تصل هذه الأنظمة إلى الطريق المسدود مع الألفية الجديدة، وانفجار الوضع القائم، أوائل العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، بالتزامن مع ارتخاء قبضة القوى الدولية (الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا) التي انكفأت على نفسها، بسبب الأزمة الاقتصادية الدولية وأزمة الديون السيادية في منطقة اليورو.

لكن، في ثورات الربيع العربي، وعلى عكس أحداث يورو ميدان في أوكرانيا التي خططت لها وقادتها الطبقة الأوليغارشية، فقد جاءت من أسفل المجتمع، في وجه تغوُّل الدولة البوليسية/ العسكرية، وانتفاء أدوارها الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية، وتركيزها الأوحد على القمع، سبيلاً وحيداً لإدامة النظام السياسي، وعلى شرعية الخوف، مصدراً وحيداً للشرعية السياسية. وقاد هذه الثورات شباب من تيارات سياسية وأيديولوجية متنوعة، وهو الذي يعاني، أكثر من غيره، من الفئات الاجتماعية الأخرى، من هذا النمط من الأنظمة السياسية والاقتصادية. وكانت ثورات الربيع العربي كلها تحمل شعارات كبيرة عن "الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية"، وتعي جيداً أهدافها في إسقاط النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي لدولة ما بعد الاستقلال، وإعادة بناء نظام جديد، ما يجعلها أقرب إلى ربيع الشعوب في أوروبا في القرن التاسع عشر، وربيع الشعوب في أميركا الجنوبية في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته. في حين تنتفي هذه الميزة عن مجمل الثورات الملونة، والمخملية، التي عرفتها أوروبا الشرقية، وعدد من بلدان الاتحاد السوفييتي السابقة، أوائل العقد السابق من القرن الواحد والعشرين، ومنها الثورة البرتقالية في أوكرانيا سنة 2004، والتي لم تحاول تغيير النظام الأوليغارشي، وإنما تغيير الأفراد بآخرين، والولاءات القديمة للشرق وروسيا بولاءات جديدة لأوروبا والغرب. 
   
ويتجلى ذلك في أوضح صوره في التكلفة البشرية والمادية للثورة، ففي حين كانت ثورات أوروبا الشرقية مخمليةً وسلميةً وغير عنيفة في مجملها، جاءت ثورات الربيع العربي قوية ومزلزلة ودمويةً، في أغلب الأحيان، لأن نخب الأنظمة السياسية العربية تعرف جيداً أن انتصار الثورة يعني نهايتها الحتمية، وخسارة امتيازاتها ومصالحها الكبيرة، وهي، بالتأكيد، ستخوض المواجهة ضد الثورات إلى نهايتها، ولو اقتضى الأمر تدمير البلد نفسه، وتقسيمه اجتماعيا ومناطقيا (نموذج الثورة الليبية والثورة السورية)، أو استخدام سلاح الانقلابات العسكرية، والثورة المضادة وحمايتها بالتحالفات الاقليمية والدولية (نموذج الثورة المصرية والثورة اليمنية).

أما في أوكرانيا، فقد كانت حاولت النخب الموالية للغرب إعادة تكرار سيناريو الثورة البرتقالية المخملية، كانت أحداث يورو ميدان، في عمومها، سلمية في البداية، لكنهم أغفلوا لاعباً جديداً، صعد إلى واجهة الأحداث السياسية بقوة، هو اليمين القومي المتطرف الذي قاد الأحداث نحو العنف، وقادت شعاراته البلاد نحو الانقسام الاجتماعي الحاد على أساس الهوية الثقافية للسكان، ما يهدد بشبح حربٍ أهليةٍ، بدل ثورة شعبية، خصوصاً وأن الأحداث تزامنت مع رغبةٍ دوليةٍ، في استعادة ذكريات الحرب الباردة وصراع الشرق والغرب.

وفي الوقت الذي رفعت ثورات الربيع العربي شعار إسقاط النظام والتخلص من فلوله وأحزابه وأدواته السياسية كأحد أهم أهدافها، فإن الأحداث في أوكرانيا قادت إلى الواجهة مجدداً الوجوه القديمة نفسها والأحزاب المتهرئة التي كانت في السلطة في الماضي، ولعل خروج رئيسة الوزراء يوليا تيمشينكو من السجن، وحصول مقربين منها في حزب أرض الآباء على منصبي الرئيس المؤقت (أوليكسانر تورتشينوف) ورئيس الوزراء (أرسيني يتسينيوك)، وعودتها للمنافسة بقوة على منصب رئيس الدولة، قبل أن تخسر السباق لمصلحة الأوليغارشي الآخر، بيترو بوروشينكو الذي انتخب رئيساً للبلاد، وهو الذي كان أحد أهم داعمي الرئيس السابق، فيكتور يوشينكو، الذي جاءت به الثورة البرتقالية، وأحد أكبر مموليها، وتتهمه جهات عديدة بالفساد ومراكمة الثروة بطرق غير شرعية.

كلها عوامل تفيد بأنه لا جديد في الطبقة السياسية المتنفذة في كييف، والمساهمة في الأزمة الأوكرانية الحالية، باستثناء الجديد الوحيد الذي طفا على السطح أخيراً، متمثلاً في حركات اليمين القومي الأوكراني المتطرفة (حزب سفوبودا وحركة قطاع اليمين) ونشوء مقابل روسي لها في المناطق الشرقية (حركة ميليشيا دونباس الشعبية وجمهورية دونيتسك الشعبية)، وتحول الاحتجاجات الشعبية إلى ربيعين متوازيين، واحد أوكراني غرب البلاد والثاني روسي شرقها، ما يعد بمستقبل أسود لبلدٍ، فقد فيه الناس إيمانهم بالسياسة والسياسيين، وصار الخطاب القومي وتقسيم البلاد الحل البديل الممكن، في ظل موت السياسة وإفلاس الطبقة السياسية وغياب نخب بديلة، على الرغم من أنه يهدد بحرب أهليةٍ على المدى الطويل.
avata
محمد الكوخي

كاتب وباحث مغربي، في الاقتصاد والعلوم السياسية والاجتماعية. حاصل على الماجستير من ألمانيا. نشر عدة بحوث ودراسات بالعربية والإنجليزية، في الاقتصاد والعلوم السياسية والاجتماعية والتاريخ واللسانيات، له كتاب "سؤال الهوية في شمال إفريقيا".