الراقصون على الثورة
كان الحديث عن "الأعراس الديمقراطية" مزحة تتداولها الشعوب عند كل استحقاق انتخابي في بلاد الديكتاتوريات العربية، غير أن المزاح تحوّل جدّاً، وبات الرقص في الشوارع وفي اللجان الانتخابية، من المواطنين والصحافيين، حدثاً يستحق أن تفرد له المساحات في المواقع الإخبارية وشاشات التلفزة. رقص مموّل، ومسنود بماكينة وإمكانات إعلامية وسياسية ومالية، لإظهار فرح مصطنع بغد أفضل، على الرغم من أن المؤشرات تفيد بأن الأسوأ لا يزال أمامنا.
مشاهد تنذر بيأس من التغيير، سبق أن عبّر عنه الشاعر المصري الراحل، نجيب سرور، حين قال: "وقلنا ننضف قالوا بلا وكسة.. والله لتحصل بدل النكسة ميت نكسة". يأس جسّده الراقصون فوق الثورة وإنجازاتها. هؤلاء كانوا أداة لإيصال رسالة إلى من لا يزال لديه بصيص من أمل في أن التغيير ممكن، وأن ما حصل في 30 يونيو/حزيران الماضي في مصر، ليس سوى استكمال لثورة 25 يناير. لكن هؤلاء الراقصين ليسوا أولئك الموزعين في الساحات والشوارع المصرية، يغنون لقدوم عبد الفتاح السيسي، واستنساخ حسني مبارك أشد سوءاً. ولا هم المندفعون يقترعون بالدم لانتخاب بشار الأسد، وتفويضه ارتكاب مزيد من الإبادات الجماعية.
هؤلاء جزء يسير من صورة أوسع وأشمل وأعم. هم يرقصون على وقع ما قاله نجيب سرور أيضاً: "مساكين بنضحك من البلوة، زي الديوك والروح حلوة، سارقاها من السكين حموة، ولسا جوا القلب أمل". هم جزء مضلل أو مأجور، دفعت به قوى أكبر إلى رسم مشهدٍ، يضفي انطباعاً مزيفاً لواقع معاكس لما كانت الشعوب تأمله. لكن الغريب في الأمر أن كل هذا الرقص وهذه الاحتفالية لم يغطيا على نسبة المقاطعة الكبيرة، في الانتخابات المصرية خصوصاً، والتي دفعت إعلاميين مصريين شهيرين إلى البكاء على الهواء، لاستجداء الشعب النزول إلى صناديق الاقتراع. حال يدفع إلى التساؤل عن الميول الحقيقية لـ "الشعب الراقص على الهواء مباشرة".
لكن، في كل الأحوال، يبقى هؤلاء كومبارس في المشهد الخلفي للصورة، وإن بدا رقصهم في صدارتها. فالراقصون الحقيقيون هم الذين سارعوا إلى تهنئة "المشير الرئيس" بانتخابه، وكالوا ما تيسر من تهديد ووعيد لكل من يقف في وجه "رغبة الشعب المصري وخياره". هؤلاء هم الراقصون الحقيقيون على جثة الثورة ومآلاتها، ووقفوا، منذ اليوم الأول، في وجه كل ما أنتجته الحركات الجماهيرية، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل إسقاط ما أفرزته الثورة. لم يوفروا فرصة إلا واستغلوها، إلى أن جاء الانقلاب العسكري وتداعياته المتوجة بالانتخابات، ليكون رقصهم حقيقياً ونهائياً.
ما شهدته شوارع القاهرة لم يكن رقصاً مصرياً خالصاً، هو أشبه ما يكون بـ "رقص بالوكالة". هناك من أقنع، أو يسعى إلى إقناع المصريين بأن انتخاب عبد الفتاح السيسي هو الخيار الأمثل والأهم. وسائل عديدة استخدمت لتحقيق هذا الغرض. بعضها أفلح والآخر فشل، فكان لا بد من اللجوء إلى المزيد، والحديث عن المساعدات الاقتصادية واستحضار فكرة "الدول المانحة" لتقديم المزيد من عناصر الإقناع لشعبٍ، يعيش في حال اقتصادي مذرٍ.
هؤلاء يرقصون اليوم فرحاً وطرباً وهم يرون ما أنجزته أيديهم. يضحكون كيف استطاعوا تحويل حركة شعبية، كان من المفترض أن تكون تاريخية، وعلامة فارقة، في واقع عربي بائس، إلى مرحلة عابرة عكّرت فترة بسيطة مسار الحكم الديكتاتوري. غيّروا الوجوه وبعض الأدوات، لكن الفحوى لا يزال نفسه. حكم عسكري بلباس مدني يستكمل ما كان قائماً تحت مسمى "الرغبة الشعبية". هي محاولة مزاوجة بين الحركة الجماهيرية والصناديق الانتخابية، لكن، بما يتلاءم مع رغبات لا علاقة لأصل الثورة بها.
الراقصون حققوا نصرهم، واطمأنوا إلى عودة مياه الحكم إلى مجاريها، لكن، من المؤكد أن الرقصة لم تنته بعد، وأن حركة التاريخ ستكون لها كلمة ما، في زمن ما، لتكون العبرة في من يرقص أخيراً.