تتذكّرين؟! في الربيع عندما تعود الحركة للمدينة وتبدأ شوارع آرل تكتظّ بالسيّاح، وتعود طيور نهر الرون؛ عندما يعود الخطّاف إلى زوايا سقوف القرميد في أزقّة آرل القديمة وتشتد زقزقة عصافير الدوري كما تشتدّ زرقة هذا النهر الروماني ويصير متموّجاً شبيهاً بالبحر؛ الرون الذي ينساب منذ ملايين السنين، وتبرز تلك الجزيرة الصغيرة شمال النهر، والتي تظلّ مغمورةً كاملَ الشتاء، والتي نراها من بعيد لطخةً صفراءَ معلنةً، هي أيضاً، مجيء الربيع وانحسار المياه.
تتذكّرين عندما ذهبنا إليها يوماً في قارب فيليب الذي بناه على نمط قوارب الرون اللاتينية، فهو مغرم بتاريخ النهر، وقد عاد أيامها من بنغازي... من رحلة دراسية مع بعثة أثرية مخرت مياه جنوب المتوسّط من شواطئ بنغازي حتى الإسكندرية بحثاً عن عاديات فينيقية ورومانية، وإذا بها تعثر على تمثال إغريقي يمثّل الإله زحل. بحثوا، أيضاً، عن آثار سفينةٍ لنابوليون بونابرت غرقت في تلك المياه وهو يعود قافلاً من مصر التي ترك فيها جرثومة التغريب التي لم يجدوا لها حلّاً إلى اليوم، كما هو الشأن لدى كثير من الثقافات غير الغربية...
ترك نابليون جماعة السانسيمونيّين في مصر وأسطورة اكتشاف قراءة الخط الهيروغليفي على حجر رشيد، والحال أن العمل الذي أنجزه المصريون قبله لفكّ رموز هذا القلم الفرعوني كان الأساس الذي اعتمده شامبو ليون، بل إن البحث في تفكيك القلم الفرعوني يمتدّ إلى الفيلسوف والعلّامة عبد اللطيف البغدادي الذي أنجز أعمالاً علمية متقدّمة في ذلك العصر؛ إذ قاس الأهرامات وقام أيضاً بأعمال التشريح لتلك الجثث التي كانت تملأ قرى مصر التي خلت من سكّانها جرّاء مجاعة اجتاحتهم... حتى أكَلَ الناس لحوم البشر كما يروي البغدادي نفسه.
تتذكرين ربيع الجنوب الفرنسي عندما تشتعل آرل بضوء إيطالي وتصير مدينةً متوسّطية، وتعود القوارب الصغيرة بأشرعتها تعبر من أمام البيت نلمحها من السطح إذ تشتد الحرارة في الظهيرة... السطح حيث ظللتِ تسقين شجرة الياسمين والجيرانيوم واللبلاب المعترش وحبّات الطماطم سنةً بعد أخرى إلى أن تسرّبت المياه إلى سقف الغرفة التي تقع تحت السطح مباشرةً؛ حيث رفوف الكتب التي احتفظت بها سنين طويلة: أعمال غوته وهرمن هسة ونيتشه ومختصر لتاريخ هيرودوت، موسوعة البرفانس وكتب ألفونس دوديه التي نقلتها للألمانية لحساب أمير موناكو الذي كان يتدخّل في تفاصيل العمل... وكتاب انهيار الإمبراطورية الرومانية لجيبون، وقاموسٌ للغة اللاتينية ومجلّد موسوعة الميثولوجيا الرومانية؛ عالمك الذي لم تغادريه... العالم القديم الذي انشددت إليه ورسمته في لوحاتك ومجسّداتك الجصّية، وهو الذي قوّى غربتك في هذا العالم... قلّص تواصلك مع معارفك الأرليزيين... لم تقتن مطلقاً لا جهاز تلفزيون ولا راديو، ظللت وفيةً، ظللت بمنأىً عن الإنسان المعاصر في الغرب الذي تقولين عنه إنه أضاع جوهره من يوم فقد روابطه مع الطبيعة... وأضاع روحه وعقله، تركهما لتتلاعب بهما الميديا.
في تلك الأماسي الهادئة، كنّا نستقل السيّارة ونمضي إلى قرية فونفياي. كم أحب تلك الطريق التي تمر بدير موماجور الذي تشتعل الشمس عبر نوافذه، فتبدو في البعيد ثقوباً زرقاء مفتوحة على سماء متوهّجة. دير موماجور مثل قلعة شامخة... موماجور الغرب الشاهد على عصور العذابات المسيحية، عصور الشهداء... كان لورانس داريل يكره هذا الدير؛ فقد جاء إلى البروفانس واتّخذ بيتاً بمدينة سوميير بحثاً عن شمس الجزر اليونانية، وليس ظلام الكثلكة كما يقول... في البروفانس أيضاً التجأ الشاعر روني شار، اشترى طاحونة قديمة في مدينة إيل سور سورغ، وحوّلها إلى بيت. هناك كان يستقبل صديقه الفيلسوف الألماني هايدغر الذي يعتبر شعرَ روني شار تحقّقاً لأسئلته الوجودية.
ما تزال تلك الطريق التي تربط آرل بفونفياي تحتفظ بسمت القرن التاسع عشر، تحفها حقول زهور الكولزا الصفراء وعبّاد الشمس والخزامى وبساتين التفّاح المضيء تحت النجوم، ظلّت كما هي في رسوم التعبيريّين ماني وموني وبيزارو... حقول نُرسل إليها النظر ونقول لأنفسنا ها نحن نرى نفس المشاهد التي رآها فان غوغ... بساتين وحقول لم تمسها يد التحديث، لم تتغيّر وتلك الطاحونة العتيقة الخربة.
أتذكّر، في أواخر مارس عندما كنت تتابعين نموّ البراعم ثم الأوراق، يوماً بيوم، في أشجار الدلب التي أمام البيت. قلت: قبل البارحة كانت الأشجار جرداء بالكامل، واليوم ألم تلاحظ التبرعم السريع...
هو الموسم الذي نزور فيه فونفياي باستمرار... فونفياي القرية المضيئة الأرستقراطية الصامتة وسط حدائقها وورودها وأزهار الجيرانيوم الحمراء التي تغزو حدائق فللها... ونجلس في ظلال أشجار الدلب في الساحة التي أمام آخر مقهى بروفانسي وهو يقع في مدخل المدينة. ذاك المقهى ذو الكراسي والطاولات الخشبية البنّية كما هي في رسوم سيزان؛ حيث يجتمع لاعبو الورق من سكّان القرية بسَمْتهم البروليتاري وهم يصرخون ويطلقون الدعابات الفاحشة أو يهمسون لبعضهم بأخبار القرية كما لم يتغيّر شيء من أيام ألفونس دوديه، لعلّها نفس القصص تتكرّر ولكن بطرق مغايرة...
لا أدري لماذا تُذكّرني كتابات دوديه بمارون عبّود في "أحاديث القرية"، وتلك النصوص الرعوية اللبنانية بين الحربَين؛ مثل المفكّرة الريفية... رسائل طاحونتي يُعدّ من كلاسيكيات الأدب الفرنسي، تربّت عليه أجيال وحوّله الروائي والسينمائي البروفنسي مارسيل بانيول إلى شريط سينمائي.
وقلتِ لي: هذا آخر مقهى تدور فيه حياة القرية. قريباً سيُستبدَل بمقهىً سياحي يجلس فيه الروّاد الأجانب متحفّظين هادئين مثل الدمى بلا حياة... سيفقد المقهى حياته وسيصير فاحش الغلاء...
آخرَ المساء والشمس توشك على الغروب وراء الكنيسة، غادرنا القهوة مسرعِين قبل حلول الظلمة لزيارة طاحونة ألفونس دوديه والقصر الذي كان يُقيم فيه كلّما جاء إلى البروفانس للاستراحة من عناء باريس، ليختلي بنفسه ونصوصه... القصر بناءٌ مهيب ذو عمارة كلاسيكية ينتصب أمام باحة دائرية كما هي بيوت برجوازية القرن التاسع عشر، تحيطه حديقة كبيرة متّصلة بالغابة. وجدنا القصر مغلقاً، فواصلنا صعودنا إلى المرتفع الحجري، إلى الطاحونة الشهيرة التي استوحى منها عنوان كتابه "رسائل طاحونتي"، وتقول الأسطورة إنه، ومن شدّة ولعه بهذه الطاحونة، قرّر شراءها.
اليوم، تحوّلت إلى متحف صغير بحجم اليد كما يُقال. يضمّ أعمال ألفونس دوديه، وخاصّةً ترجمات كتابه "الرسائل" في جميع اللغات، منها ترجمة عربية أنجزها كاتب لبناني حوالي 1929.
ها نحن أمام الطاحونة، وهي عبارة عن برج صغير وبوّابة صغيرة تعلوها لوحة كتب عليها طاحونة ألفونس دوديه وكشكٌ به شبّاك تذاكر الدخول... أجل هكذا لا بد أن تدفع لتدخل لهذا المتحف الذي لا يحتوي سوى على خزانة كتب.
قالت غلوريا معلّقةً: كل شيء يحوّله الفرنسي إلى متحف ويضع آلة معقّدة باهظة التكاليف ليستخلص قروشاً زهيدة... ألَم ترهم في آرل هدموا بيت فان غوغ الأصفر وأعادوا بناءه في مكان آخر ورتّبوا أثاث غرفته من خلال لوحة الحذاء الشهيرة حيث انعكس الأمر لم يعد الفن صادراً عن الحياة، وإنما صارت الحياة تقليداً للفن... المهمّ إيجاد متحف يؤمّن دخلاً للمدينة التي عاش فيها ستّة عشر شهراً من أخصب أيام حياته وأتعسها وقد أسقطته عدوانية سكّانها في وهدة المرض...
عندما دلفنا إلى الطاحونة، أحسسنا في الحال أنّنا ندخل إلى طفولتنا إلى تلك اللحظات عندما كنت تأخذ كتاباً وأنت هنيّ البال تقرأ لتكتشف العالم.