الديمقراطية في إريتريا... كوكب آخر

09 ابريل 2014
+ الخط -

تخلى الرئيس الإريتري أسياس أفورقي عن إجابته الدائمة عن السؤال الذي ظل يطارده لعقدين، حول الديمقراطية في بلاده، فعوضَ أن يكرر ما قاله عشرات المرات، من أن إريتريا ليست بحاجة إلى قوالب جاهزة يتم استيرادها من الغرب، وإنما هي قادرة على خلق نموذجها الفريد في الديمقراطية، انتقل أفورقي مباشرة إلى الإجابة التي اعتبرها خصومه الأكثر صدقاً، في توصيف سنوات حكمه منذ العام 1991، حتى الآن. وقال في مقابلة بثها التلفزيون الرسمي "إن من ينتظرون أو يتوهمون أن نمارس الديمقراطية في هذا البلد، يعيشون حتماً في كوكب آخر".

لكن هل كان الإريتريون بحاجة فعلاً لسماع هذه الكلمات من قائدهم الذي يرأس الحزب الوحيد في البلاد، والذي يُسمى - لمزيد من المفارقة - "الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة"، كي يكوّنوا فكرة عن النفق الذي دخلته تلك الأحلام التي واكبت الاستقلال عن إثيوبيا بعد حرب دامت ثلاثين عاماً؟.

تبدو المسألة للإريتريين أكثر وضوحاً، ما يفرغ تصريحات أفورقي الأخيرة من أي جديد. غير أن السؤال الآخر الذي يهمنّا هنا هو، لماذا اضطر أفورقي هذه المرة لطرح رؤيته في إدارة البلاد دون أي مواربة، وهو الذي ظل لعقدين يغلفها بعبارات فضفاضة لا تبقيه بعيداً، عن فكرة الديمقراطية.

أحلام الاستقلال

منذ اليوم الأول لسيطرة "الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة" على مقاليد الأمور في إريتريا الواقعة على ساحل منطقة القرن الإفريقي بشرق القارة، وطرد "جبهة التحرير الإريترية" إلى السودان، وهي التي ابتدرت النضال ضد المحتل الإثيوبي، يتحرك الحزب الحاكم وفق مشروعين: الأول عالي النبرة، ومتخم بالوعود لتتويج سنوات النضال بأحلام العدالة والديمقراطية والعيش الكريم، والثاني مشروع يمضي قدماً في الخفاء، ويُسفر مع الوقت عن وجه مختلف يُعنى بفئة محدودة من الشعب.

في عيد الاستقلال، كثر حديث الحزب الحاكم عن البرلمان والدستور والتعددية السياسية، والحريات الأساسية وحرية الرأي والمعتقد، وظهرت شواهد محدودة في هذا الاتجاه عبر الترخيص لعدد كبير من الصحف ومنحها هامشاً كبيراً من الحرية، غير أن مرور الوقت كان يقلل على الدوام من حظوظ هذا المشروع، ويصب في المشروع الثاني.

استهلّ الحزب حكمه باعتقال عشرات الدعاة وأئمة المساجد في ليلة واحدة من مدينة قندع وضواحيها، من دون أن يقابل هذا الأمر برفض واستهجان النخب المثقفة، التي رأت في الأمر خلاصاً من مجموعات متأثرة بالمد الوهابي. وقد دفع المثقفون لاحقاً، ثمن التواطؤ الصامت.

 

انعطافة أولى

لم تهنأ البلاد طويلاً بما وصف بـ"الربيع الإريتري" في حينها 1992-1996 والذي شهد انتشار الصحف والمجلات، وعودة جماعية لنخب سياسية وثقافية، وانخراطها في بناء إريتريا ما بعد الاستقلال، إذ سرعان ما ضاق الحزب بانتقادات الصحف، فأغلقها، وبدأ في حملات اعتقال طالت عددا من أصحاب "الصوت المرتفع" في نقد أداء الحكومة المتفردة بكل شيء، قبل أن تندلع الحرب مع إثيوبيا العام 1998، وهي الانعطافة الكبرى لإريتريا نحو المزيد من الانحدار في دركات القمع والاستبداد.

انتهت الحرب وقد حصدت عشرات الآلاف من القتلى الإريتريين، كثير منهم كان قد عاد إلى الوطن كي يُنهي أعواماً من الغربة خارجه. لكن هذه النهاية لم تكن إلا البداية الحقيقية لسلوك النظام الحاد تجاه كل من يختلف معه، وهو النهج الذي ستعرف به "الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة" طوال السنوات اللاحقة، فالوطن – وفق مفهومها - لم يعد يتسع إلا لـ"الشرفاء" الذين ينضوون بالضرورة تحت لواء الحزب الحاكم، وكل من عداهم هم في صفوف "الخونة" الذين يجب استئصالهم ونبذهم.

حزب واحد وتلفزيون واحد وصحيفة وحيدة
ثم اندلعت الحرب الثانية مع إثيوبيا في العام 2000، وما بين الحربين كان الرئيس أسياس أفورقي قد أمر باعتقال عشرات الوزراء وكبار أعضاء الحزب ومثقفين وصحافيين، طالبوا بتنفيذ وعود الدولة بشأن إحلال الديمقراطية في البلاد، ولا يزال من بقي منهم حياً، رهن الاعتقال حتى اليوم.

كما لم يتبقَّ في البلاد غير تلفزيون واحد وصحيفة واحدة وإذاعة وحيدة جميعها تمثل الحزب الحاكم وحده. وعُطّل العمل بالدستور، وتم حلّ البرلمان. كل هذا يحدث والنظام يبرره دوماً بالحالة الخاصة التي أفرزتها الحرب مع إثيوبيا، وبدواعي الحفاظ على الأمن القومي. غير أن وثائق "ويكيليكس"، أفادت بأن السبب الرئيس للحرب الإريترية ــ الإثيوبية، كان خلافاً شخصياً بين أفورقي ورئيس وزراء إثيوبيا الراحل ملّس زيناوي ليس إلا!

 

انعطافة ثانية

حالة اللاحرب واللاسلم التي أعقبت الحرب الثانية مع إثيوبيا، خلقت واقعاً مأساوياً في الداخل الإريتري، فقد عمدت الحكومة إلى سنّ قانون التجنيد الإجباري لكلا الجنسين، ومن دون أمد معلوم، وهو ما اقتضى من الحكومة أن تتبعه بقانون آخر يمنع الإريتريين من مغادرة البلاد قبل انقضاء فترة التجنيد التي لا تنتهي أصلاً، وهو ما جعل إريتريا في النهاية مكاناً يجمع الممنوعين من السفر.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد استخدم النظام المجندين في مشاريع تخص الحزب وحده، كالتنقيب عن الذهب، وبناء مساكن لكبار المسؤولين والضباط، من دون مقابل إلا القليل من الطعام والشراب، وهو الأمر الذي سدّ كل الآفاق أمام الإريتريين، واضطرهم إلى الهرب إلى دول الجوار أفراداً وجماعات.

 

5 ملايين فارّ و100 لاجئ يومياً

وثّقت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، في تقريرها الأخير المتعلق بالأوضاع في إريتريا للعام 2013، أن ما يعادل 5 في المئة من السكان البالغ عددهم نحو خمسة ملايين، قد فروا من البلاد، باتجاه السودان وإثيوبيا واليمن.

هذا الهروب الكبير لا يزال مستمراً بشكل يومي، إذ تستقبل مخيمات اللاجئين في شرق السودان وحدها، بشكل يومي، نحو مئة لاجئ جديد، بينما يتسرب عشرات غيرهم إلى المدن السودانية من دون المرور بالمخيمات.

وقد اختفت خمسة منتخبات لكرة القدم أثناء مشاركاتها الخارجية في دول الجوار، طلب أفرادها اللجوء لاحقاً في دول غربية، كما سُجلت حالات هروب مماثلة لوفود موسيقية وثقافية أتيحت لها المشاركة في فعاليات خارجية.

ولم تفلح محاولات النظام للضغط على الهاربين عبر سجن أمهاتهم، وأمام الوضع الاقتصادي المتهالك، كان النظام يقبل بدفع الهارب لغرامة تصل إلى 1500 دولار تقريباً من أجل تسوية الأمر والإفراج عن والدته. وحين هرب ضابطان بمروحية رئاسية إلى السعودية وطلبا اللجوء، أصبحت المعضلة أمام النظام الإريتري هي كيفية جلب الطائرة، إذ كلما أرسل طياراً للعودة بها، طلب اللجوء هو الآخر.

 

مخيمات اللجوء

يعيش اليوم نحو نصف مليون لاجئ إريتري على حدود وطنهم في شرق السودان في ظروف معيشية سيئة، بعدما سحبت الأمم المتحدة عنهم صفة اللجوء، وبالتالي لم تعد مسؤولة عن إعاشتهم، كونهم ينتمون إلى بلد وقّع على اتفاقية لعودتهم الطوعية، من دون أن يلتزم بها في الواقع، بل وضع أمامها العديد من العراقيل بسبب مخاوف من تهديد البنية الديمغرافية الآخذة في التشكل منذ الاستقلال، فكان من يرغب في العودة إلى إريتريا يُحرم من السكن في قريته، بل يُبعَد إلى منطقة بعيدة لا يعرفها ولا يعرف أهلها. وفي حال إصراره على البقاء، يُحرم من الخدمات الأساسية حتى يقتنع بالرحيل من تلقاء نفسه.

وبعدما كانت الموافقة المبدئية على العودة الطوعية تتجاوز 90 في المئة من أعداد اللاجئين في شرق السودان، توقف هذا الأمر تماماً بحلول العام 2004، واضطر من اختار العودة الطوعية إلى بلده، للرجوع مجدداً إلى مخيمات اللجوء في السودان.


بلد الثنائيات

هناك تقسيمات ثنائية عديدة في إريتريا، تصلح كمدخل لفهم الواقع الثقافي في البلاد، ففيها مسلمون ومسيحيون، أو عرب وأحباش، أو سكان مرتفعات ومنخفضات، أو فئة سكانية امتدادها الجغرافي والوجداني إلى السودان، بينما الفئة الأخرى إلى إثيوبيا. ورغم وجود تسع قوميات وفق التقسيم الرسمي- غير المرضي عنه - فإن الأمر يعود في النهاية بطريقة أو بأخرى إلى تلك التقسيمات الثنائية كمرجعية ثقافية محددة.

ورغم كون اللغة العربية هي اللغة الرسمية إلى جانب التغرنية (لغة وقومية الرئيس أسياس أفورقي) التي يتحدث بها سكان المرتفعات، وهم أقلية كبيرة، ورغم كون المسلمين يشكلون ما نسبته 75 في المئة من عدد السكان، ومعظمهم من قاطني المنخفضات المرتبطين ارتباطاً وثيقاً بالعربية، فإن هذه اللغة تعاني تهميشاً وإقصاءً واضحاً.

فالتغرنية هي لغة الإعلام الطاغية، ولغة المعاملات الحكومية، وكل من لا يتحدث إلا العربية هو بحاجة لمترجم إلى التغرنية في أي معاملة حكومية بسيطة.

ولأن معظم الحروب التي شهدتها إريتريا منذ حرب الاستقلال، دارت في مناطق المنخفضات، فقد شكّل سكان تلك المناطق السواد الأعظم من المهاجرين خارج البلاد، تاركين خلفهم منازلهم وأراضيهم، لتقوم الحكومة بعملية إحلال ديمغرافي هائل.

مُنحت الأراضي الخصيبة الشاسعة والبيوت الفارغة لسكان قادمين من المرتفعات، فأصبحت مصوع اليوم مثلاً، وهي المدينة الساحلية على البحر الأحمر، والتي كان سكانها لا يتحدثون إلا العربية، أصبحت مدينة ناطقة بالتغرنية تماماً.


معارضة كسيحة

أمام هذا السوء في إدارة البلاد، لا تؤدي المعارضة الإريترية المقيمة في إثيوبيا، دوراً أفضل، فهي مشغولة على الدوام بحل خلافاتها الداخلية، وتشظيها الدائم، وتناحر قادتها على المناصب الافتراضية لكيانات هشة.

وربما خير مثال على أداء المعارضة، هو الإشارة إلى أنها تناقش اليوم حق تقرير المصير لعدد من القوميات بعد سقوط النظام، ما يعني أن إريتريا التي تزيد مساحتها قليلاً عن 121 ألف كيلومتر مربع، مهدّدة بالتقسيم وفق أشكال إثنية وعرقية، ليتم في النهاية – وفق منطق المعارضة - استبدال الديكتاتورية بالتفتت.


لماذا الآن؟

وبالعودة إلى المغزى من توقيت تصريح أفورقي عن أن الديمقراطية لا مكان لها في بلاده، فإن ذلك يعكس أن النظام قد وصل إلى غايته تماماً، ولم يعد بحاجة لإخفاء مشروعه المتحقق، أو أنه يعيش حالة إحباط كبيرة، بالنظر إلى حالة انسداد الأفق التي يعيشها الحزب الحاكم اليوم، وكمّ الصراعات التي تنخر في أساسه المتهالك.

وليس أدل على ذلك من عملية الانقلاب الفاشلة التي قادها ضباط في الجيش في يناير/كانون الثاني من العام 2013. إضافة إلى أن رجل الحزب القوي، يعاني أمراضاً مزمنة وهو في منتصف السبعين من عمره، من دون أن يعيّن نائباً له، ما جعل مكانه مطمعاً لكبار قادة الجيش المتناحرين على ما تبقى من كعكعة البلاد التي تعاني وضعاً اقتصادياً سيئاً للغاية.

وتشهد المدن انقطاعاً في التيار الكهربائي يدوم لساعات طوال، ويعزّ ماء الشرب في مناطق كثيرة بينها مناطق في العاصمة أسمرا، ما يهدد بقيام ثورة جياع.

حالة الإحباط هذه من شأنها أن تجعل الأمور أكثر وضوحاً، فلا يوجد للنظام ما يخسره، ولا يعود بحاجة لمداراة نهجه، وخصوصاً أن تلك المداراة أصبحت أكثر كلفة اليوم، والنظام لم يعد بمقدوره أن يتحمل خسارات أكبر.

* صحافي وروائي إريتري

avata
avata
حجي جابر
حجي جابر