كان المناخ السياسي المتوتر يحيط بالنسخة الثانية من بطولة كأس العالم لكرة القدم في إيطاليا عام 1934 في ظل سطوة النظام الفاشي بقيادة الديكتاتور بينيتو موسيليني، فقد شابها اتهام بوجود تدخل سياسي سافر لإهداء اللقب للبلد المضيف، في فضيحة لم تتكرر ربما إلا في مونديال 1978 بالأرجنتين.
استغلت السلطة الإيطالية الحدث الرياضي لتحقيق أغراض سياسية، حيث قامت بالترويج عالمياً لنجاح النظام الحاكم واكتساب شعبية كبيرة، وجعلت من الكأس إنجازاً يخلد تاريخياً باسمها فيما بعد.
لم يكن موسوليني مولعاً بكرة القدم ولا يحبها من الأساس، لكنه أدرك تأثيرها على العامة، فسعى لجعل تنظيمها حكراً على إيطاليا فقط، وتسميتها "كأس الدوتشي" وهو لقبه الشخصي ويعني "القائد" بالإيطالية.
أشرف الدوتشي على تنظيم البطولة بنفسه وإخراجها في أفضل صورة من أجل سمعة نظامه في الخارج، حتى أنه اختار بنفسه حكام المباريات.
وانسحبت السويد من سباق تنظيم البطولة دون سابق إنذار ودون تقديم مبررات، لكن الواضح أن البلد الاسكندنافي تعرّض لضغوط سياسية لإفساح المجال أمام إيطاليا لتنفرد بهذا الشرف.
اجتمع موسوليني، الذي تولى الحكم قبل 12 يوماً من البطولة، مع لاعبي المنتخب قبل أيام على انطلاقها، ووجه إليهم تحذيراً شديد اللهجة مفاده أن حياتهم في خطر في حال لم يظفروا بالكأس، فقد كان اللاعبون يحملون صفة "جنود في مهمة وطنية" والفشل يتطلب أقصى عقوبة.
وقال موسوليني نصاً لمدرب المنتخب آنذاك فيتوريو بوتزو "أنت المسؤول الأول عن النجاح، أما إذا فشلت فليكن الربّ في عونك".
وكان أكثر صراحة مع رئيس اتحاد الكرة الإيطالي جورجيو فاكارو حين قال له "لا أعرف كيف سيتحقق ذلك، لكن يجب أن تفوز إيطاليا بالكأس، هذا أمر".
وكشف الأرجنتيني الإيطالي لويس مونتي، الذي لعب أول مباراتين نهائيتين في تاريخ المونديال مع منتخبين مختلفين، "في مونتفيديو كانوا سيقتلونني لو فزت، وفي روما كانوا سيقتلونني لو خسرت" لكنه نجا بحياته بسبب نتيجة كلّ منهما.
رفضت أوروجواي حاملة لقب النسخة الأولى السفر لإيطاليا للدفاع عن لقبها، وامتنعت عن المشاركة لاعتراضها على ديكتاتورية موسوليني ومقاطعة بلاده للمونديال الأول الذي أقيم على أرضها عام 1930.
كانت البطولة مكونة من 16 منتخباً، ولعبت بنظام خروج المغلوب منذ أول مباراة، وخسر ممثلا أمريكا الجنوبية الأرجنتين والبرازيل مباراتهما الأولى أمام السويد وإسبانيا على الترتيب ليودعا المونديال مبكراً.
وضمّ منتخب إيطاليا بين صفوفه أربعة لاعبين مجنسين وآخر برازيلياً، وكان لزاماً على اللاعبين تأدية التحية النازية أمام الجماهير في كل مباراة، لا سيما أن موسوليني كان متواجداً باستمرار في مقصورة كل ملعب.
استهلت إيطاليا مشوارها باكتساح الولايات المتحدة 7-1 في روما، ثم اصطدمت بإسبانيا، التي بدا أنها لا تقهر آنذاك، في مدينة فلورنسا، وبعد امتداد المواجهة لـ120 دقيقة بعد التعادل 1-1 ، عاد المنتخبان ليتواجها في اليوم التالي بحسب قواعد البطولة.
حقق الطليان الفوز بهدف نظيف من مخالفة للأسطورة جيوزيبي مياتزا، في مباراة شهدت مجاملات فجة من الحكم السويسري ريني ميرسيت لأصحاب الأرض، حيث ألغى هدفين للإسبان سجلهما ريجيرو وكينكوسيس، وسمح باللعب العدائي لأصحاب الضيافة، مما تسبب في إصابة أربعة لاعبين في صفوف الماتادور.
بعد تلك الفضيحة، تعرض ميرسيت للإيقاف من قبل الاتحاد السويسري مدى الحياة ثم من الفيفا، ولم يسمح له بإدارة أي مباراة دولية، ونال العقاب نفسه حكم المباراة الأولى البلجيكي بايرت.
بعد يومين آخرين، في ميلانو فاز الأتزوري في نصف النهائي على منتخب النمسا، المرشح الأقوى للقب، بهدف وحيد جاء من تسلل لم يحتسبه الحكم السويدي إيفان إكليند، الذي تناول العشاء مع موسيليني في ليلة المباراة.
وعكف لاعبو إيطاليا على توجيه الضربات لأفضل لاعبي النمسا ماتياس سيندلر، الذي كان ملقبا بـ"موتزارت كرة القدم"، دون أن يردعهم الحكم.
أقام موسيليني حفلاً ضخماً عقب التأهل للمباراة النهائية ارتدى فيه اللاعبون الزي العسكري.
وتحت شعار "الفوز أو الموت" دخلت إيطاليا المباراة النهائية أمام تشيكوسلوفاكيا في الملعب الوطني بحضور 45 ألف متفرج، أغلبهم من أعضاء الحزب الفاشي، وفي وجود نفس حكم نصف النهائي السويدي في سابقة هي الأولى والأخيرة من نوعها.
بين الشوطين حين كانت النتيجة تشير للتعادل السلبي، توجه موسوليني لغرف الملابس وصب غضبه على اللاعب لويس مونتي بسبب مخالفاته العنيفة ضد هدّاف البطولة أولدريتش نييدلي داخل منطقة الجزاء، وشرح له أن الحكم تغاضى عن احتساب ركلة جزاء للخصم وفقاً لاتفاق مسبق، لكن إذا تكرر الأمر فإنه سيحتسب المخالفة.
بعد الاستراحة تمكنت تشيكوسلوفاكيا من التسجيل قبل أقل من ربع ساعة على النهاية بهدف اللاعب بوك، ثم منعت العارضة هدفاً آخر، لكن القدر كان رحيماً بفريق فيتوريو بوتزو الذي انتفض وأدرك التعادل بهدف أورسي، وأنقذ حياتهم هدف الفوز في الوقت الإضافي لأنجيلو تشيافو الذي نسب الفضل في التتويج باللقب لـ"طاقة الخوف من الاختفاء".
وأشيع أن الحارس التشيكوسلوفاكي فرانيستك بلانيكا تعمد ترك تسديدة تشيافو تدخل مرماه لإنقاذ لاعبي إيطاليا من "حكم الإعدام"، ليترك المجال لموسوليني لتحقيق حلمه المجنون.
وظلت تلك الفضائح تلطخ سمعة إيطاليا بعد البطولة، لكنها احتاجت أربعة أعوام فقط لتثبت جدارتها باللقب الثاني على التوالي في مونديال 1938 بطريقة شرعية دون مساعدات تحكيمية وبأداء جميل على أرض الجارة فرنسا.
لكن الانجاز تحقق تحت تهديد موسوليني أيضاً الذي توعد لاعبي إيطاليا بالقتل ما لم يهزموا المجر في النهائي، بينما تغنت الصحافة الإيطالية بقوة ونجاح الفاشية في الداخل والخارج.
وفي شهادته عن الواقعة بعد خسارة النهائي، قال الحارس المجري أنتال سزابو "لم أشعر بالسعادة مثلما شعرت بعد تلك المباراة، لقد ساهمت في إنقاذ أرواح 11 إنساناً، علمت أن موسيليني هدد اللاعبين الإيطاليين بالقتل".