الدول العربية وفرص كورونا

01 ابريل 2020
ميدان التحرير بالقاهرة خالي من حركة الناس والمواصلات (Getty)
+ الخط -




بعد سنوات من التطور التكنولوجي وتزايد التعاون بين الدول، أصبح العالم أكثر ارتباطاً، في ما اصطلح على تسميته "العولمة"، وهي الكلمة المستخدمة لوصف الاعتماد المتبادل المتنامي لاقتصادات العالم وثقافاته وسكانه، والتي تقوم على تجارة السلع والخدمات، وتدفق الاستثمارات، وحركة العمالة، وانتقال التكنولوجيا والمعلومات والمعرفة، عبر الحدود.

وعمدت دول العالم إلى إقامة مجموعة من الشراكات الاقتصادية لتسهيل هذه التحركات على مدار عقود وربما قرون، قبل أن يكتسب المصطلح شعبية في أعقاب الحرب الباردة أوائل التسعينيات، حيث شكلت العديد من الاتفاقات بين الدول الحياة اليومية الحديثة لأغلب بلدان العالم، حتى ظهر فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، الذي فرض واقعاً يختلف كثيراً عن ما سبق مجيئه.

جاء الفيروس، فعطل حركة التجارة، وشلها في العديد من المناطق، بعد أن توقف الإنتاج تماماً في أغلب المدن الصينية، في وقتٍ كانت الصين هي اللاعب الأكثر نشاطاً تجارياً بين دول العالم. توقفت سلاسل الإمداد التي كانت تغذي المصانع في أكبر اقتصادات العالم، بدءاً من مصانع لعب الأطفال والملابس، مروراً بمصانع الحواسب الآلية والهواتف الذكية، ووصولاً إلى مصانع السيارات والمعدات الضخمة، فتوقف الإنتاج الصناعي، واقترب الكثير من الشركات الكبرى من الإفلاس بعد تراجع مبيعاتها وأرباحها.

وعلى الرغم من النجاح الكبير الذي حققته أغلب الشركات حول العالم، باعتمادها على المدخلات الصينية التي جمعت بين الجودة العالية والتكلفة المنخفضة، أثبتت أزمة الفيروس أن المنظومة الحالية للتجارة الدولية لا يمكن استمرار الاعتماد عليها، فبدأت أغلب الشركات في البحث عن بدائل لمدخلات الإنتاج الصينية، وربما العودة إلى توطين بعض الصناعات، لتنويع سلاسل الإمداد لديها وتجنب الوقوع في نفس الورطة مستقبلاً، حتى لو جاء ذلك على حساب مفهوم المزايا النسبية للدول، الذي قامت عليه التجارة الدولية خلال العقود الماضية.

ومن ناحية أخرى، تسببت أزمة انتشار الفيروس في هروب كميات ضخمة من الاستثمارات، من الأسواق الناشئة بصورة خاصة، لتتوجه إلى أسواق المال الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا، خوفاً من تعرضها للمجهول في البلدان النامية والناشئة، وبحثاُ عن الملاذات الآمنة في بلادها. وفي نفس الوقت، اختفت تقريباً من الأسواق فرص الاستثمار الواعدة التي كانت تسرق الاستثمارات العربية من بلادها، طمعاً في الاستفادة من الانتعاش الاقتصادي المستقر في الاقتصادات الكبرى.

وفي حين لم تتأثر حركة العمالة حتى الآن، إلا أن أغلب المؤشرات، وبعيداً حتى عن تبعات ظهور الفيروس، كانت تسير باتجاه الاستغناء عن أعداد ضخمة من العمالة النازحة، بعضهم بسبب تراجع أسعار النفط وظهور مؤشرات على انخفاض الطلب عليه، وتراجع إنتاج العديد من شركاته، إن تمكنت من البقاء، خلال السنوات القادمة، ومن ناحية لتوجه الدول الأوروبية والولايات المتحدة نحو التدقيق في اختيار العمالة الوافدة إليها، الأمر الذي قد يعود بالملايين إلى أوطانهم، بعد سنوات طويلة من الرواتب المرتفعة، مقارنةً بما يمكنهم الحصول عليه محلياً.

ولم يتبق بعد كل ذلك إلا حركة التكنولوجيا والمعلومات والمعرفة، التي بدأت ببطء خلال السنوات الأخيرة، وبقيت في أغلبها بين الدول المتقدمة، بينما لم تنعم البلدان النامية، ومنها أغلب الدول العربية إلا بأقل القليل منها، قبل أن تظهر في الأفق العربي حركة "خليك بالبيت"، التي حرمت الملايين من أعمالهم، وقطعت التواصل بينهم، وفرضت على أبنائهم تحصيل الدروس من منازلهم.

وفي الوقت الذي تمثل فيه كل عواقب أزمة الفيروس تحديات كبيرة لكل البلدان، وعلى رأسها الدول العربية، تظهر في نفس الوقت فرص كبيرة، لو نجحت الدول العربية في استغلالها لأصبحت محنة ظهور الفيروس هي أكبر منحة ربانية تحصل عليها في عقود.

فأولاً، تفرض المحنة على الدول العربية التوجه نحو توطين صناعة الكثير مما تستهلك، خاصة الآلات والمعدات والسيارات، ويمثل غياب الصين، وتوجس الدول الكبرى من معاودة الاعتماد عليها، فرصة كبيرة للدول العربية، التي يتوفر لدى أغلبها العمالة منخفضة التكلفة، والتي يمكنها، من خلال توفير التدريب اللازم، تعويض غياب الصينيين عن السوق العالمية.
وحتى الدول العربية النفطية، يمكنها الاستفادة من الفرصة، عن طريق التسريع بتنويع اقتصادها، ابتعاداً عن صناعة النفط الذي تهاوت أسعاره، ولا ينتظره إلا المزيد من التدهور، وفقاً لتوقعات أغلب الاقتصاديين المتخصصين.

ومن ناحية أخرى، يتعين على الدول العربية الحفاظ على الفوائض المتاحة لها، وتوجيهها نحو الداخل الذي يحتاج إلى المليارات، من ناحية لتمويل الصناعات التي نرجو أن تنشأ فيها، ومن ناحية أخرى لإيجاد فرص العمل لملايين العاملين العائدين إلى بلادهم، في وقت تشير أغلب التوقعات إلى توجه الدول فيه للانغلاق والاعتماد على ما تمتلكه من عمالة واستثمارات وفرص تنمية.

لكن الفرصة الكبرى المتاحة الآن لبلداننا العربية تكمن في التوسع في استخدام التكنولوجيا الجديدة في كافة الأعمال، والاستفادة من التقنيات المتقدمة المستخدمة في الدول الأخرى، بداية من الخدمات الحكومية المقدمة للملايين، ومروراً بالإنتاج والتصنيع، وصولاً إلى التعليم والبحث العلمي، وكافة مجالات المعرفة، التي قطع العالم فيها شوطاً طويلاً، بينما مازالت أغلب الدول العربية تلهث لتقليل عدد التلاميذ في الفصول، أو لإيجاد كرسي ومكتب لطالب، يمثل أكبر طموحات والديه لنيل حياة كريمة، والخروج من الدائرة المفرغة من الفقر والجهل والمرض.

ا
لأزمة الحالية فرضت على الملايين من الطلاب المصريين البقاء في بيوتهم، واللجوء إلى وسائل التكنولوجيا الحديثة، لاستكمال ما تبقى من مناهج دراسية، بعد أن تراجعت فرص العودة إلى الفصول المدرسية والجامعية، قبل انتهاء العام الدراسي الحالي.

وبعد أن كان الكثير منهم يقف على مسافة بعيدة من أجهزة الحاسب الآلي، جاءت الأزمة لتكسر الحاجز بينهم وبين أدوات التكنولوجيا الحديثة، في وقتٍ تتيح فيه الجامعات الكبرى، ومراكز البحث العلمي، ومختلف معابد العلم حول العالم، نسبة لا يستهان بها من مواردها، بالمجان في كثير من الأحيان، عبر الإنترنت. فهل يستغل أبناؤنا الفرصة، أم تضيعها الحكومات العربية كعادتها؟
المساهمون