بداية محاكمة أول مجموعة من مسؤولي الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بتهم وجهها إليهم المحقق الخاص في قضية التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأخيرة، احتكرت المشهد في واشنطن.
غابت عن المشهد السياسة، وخلت الساحة للقضاء والجدل القانوني، وما انطوى عليه من توقعات واحتمالات، في ضوء ما شهده اليوم الأول في المحكمة من مفاجآت ومعلومات، ومؤشرات حملت المراقبين على الاعتقاد بأن "الآتي أعظم"، وأن واشنطن قد تكون على موعد لاحق مع "قصة كبيرة".
فليست مسألة عابرة أو صدفة أن يكون مدير الحملة الانتخابية، بول مانافورت، أول المتهمين، ولو أن الأدلة ضده لا تطاول حتى الآن الرئيس ترامب ولا تؤذيه مباشرة، لكن الخشية من أنها قد تقود إلى مثل هذا الأذى، وهذا ما يفسر أجواء البيت الأبيض التي يسودها "الخوف من المجهول"، كما وصفها أحد المعلقين، وكما يفسرها التباين بين فريق محامي الدفاع، الذين نصحوا الرئيس بتخفيف اللهجة في التعامل مع الاتهامات، وبين محاميه السياسي ستيف بانون، الذي يحرّض الرئيس على "تصعيد الرد القانوني" ضد المحقق مولر من دون الذهاب إلى حد إقالته، لكنه يبقى خطاً أحمر ينعقد حوله شبه إجماع، خاصة في الكونغرس.
وحدها بعض الأصوات المحافظة المتشددة تدفع باتجاه التخلص من مولر، لكن هناك تحذيرات عارمة من أزمة دستورية لو لجأ الرئيس في وقت ما إلى هذا الإجراء.
لكن القنبلة– المفاجأة كانت في شهادة أحد مستشاري ترامب لشؤون الأمن القومي أثناء الحملة، جورج بابادوبولوس، الذي اعترف بأنه أعطى إفادة كاذبة لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي أي)، كان قد أنكر فيها أنه حاول التوسط بين الحملة وجهات روسية تملك معلومات "سيئة" عن منافسة ترامب آنذاك هيلاري كلينتون.
بابادوبولوس ابن الـ32 سنة، الذي أشاد به ترامب في ذلك الحين، وتنكر البيت الأبيض اليوم لعلاقته البارزة بالحملة، عقد صفقة مع المحقق مولر تقضي بالإقرار بالذنب وبالتعاون، وتزويده بمعلومات حول الملف الروسي، مقابل تخفيف عقوبته وخفضها من خمس سنوات سجن إلى عدة أشهر فقط، وربما إلى إعفائه كلياً لو زوّد التحقيق بمعلومات وافية.
ومثل هذه الصفقة يجيزها قانون الجزاء الأميركي، من باب اعتبار تعاون الجاني في مثل هذه الحالة على أنه مساعدة هامة على كشف جرائم أشد وأدهى.
اعتراف بابادوبولوس أسقط نفي ترامب المرشح ثم الرئيس لوجود أي علاقة لحملته مع الروس، أو أي دور لهم في الانتخابات.
إفادة هذا الشاهد، التي أدلى بها سراً منذ ثلاثة أسابيع أمام المحقق، ثم أمس أمام القاضي الفيدرالي، أكدت الاعتقاد السائد بأن الروس سعوا للتدخل ضد كلينتون.
وحتى الآن ليس واضحاً ما أفضت إليه اتصالات هذا الوسيط مع الروس، ومع ذلك هناك خشية على ما يبدو لدى البيت الأبيض، بأن هذا الاعتراف لا بد وأن يستخدمه مولر كمدخل لنبش المزيد من المعلومات التي قد تقوده إلى توجيه الاتهام لوجوه أخرى بارزة في الحملة الانتخابية.
سبحة الاعترافات قد تكرّ وتكشف عن أدوار وجوانب أوسع من القضية، خاصة وأن المحقق يتجه، كما يقال، نحو عقد المزيد من الصفقات مع الشهود والمتهمين، لتكديس ما أمكنه من الوقائع والإثباتات لبناء قضيتي التواطؤ وعرقلة العدالة.
المسافة ما زالت غير قصيرة لبلوغ الإثبات، هذا إذا تيسر بلوغه، لكن ما حدث أمس، وبعد خمسة أشهر فقط من بداية التحقيق، عزز الانطباع بأن مولر يقف على أرض كاشفة، وأن ما أنتجه حتى الآن ليس سوى أول الغيث.