الدبلوماسيّة الثقافيّة: لبنان نموذجاً

07 سبتمبر 2019
صليبا الدويهي/ لبنان
+ الخط -

بلغت تعقيدات العلاقات الدوليّة اليوم مرحلة متقدّمة لم تعد تكفي فيها الدبلوماسيّة التقليديّة المستندة بشكل خاصّ إلى البعثات الدبلوماسيّة. ولذلك تتنامى باطّراد وسائط الدبلوماسيّة الناعمة وخصوصاً الدبلوماسيّة الثقافيّة. رغم خطورة الأوضاع في منطقتنا العربيّة، ومحاولات لبنان أن يقدّم في المجال الدبلوماسيّ العربيّ ــ الغربيّ، تظهيراً للتنوّع والعيش الواحد، إلا أن الدبلوماسيّة الثقافيّة لا تزال خارج التفعيل والاستفادة منها.

بشكل لا يختلف كثيراً عن معظم الدول العربية، تعتمد العلاقات الدبلوماسيّة اللبنانيّة مع باقي الدول إلى الآن على البعثات الخارجيّة. وعمل هذه الأخيرة محصور ومقيَّد بأعراف وأصول تحدّ من حرّيّة حركتها داخل الدولة المنتدبة إليها. والعلاقات هذه هي علاقات أفقيّة بين البعثات ووزارة خارجيّة البلد المنتدبة إليه. هي أيضاً علاقات فوقيّة، تتخطّى شعب البلد، فلا تمرّ عبره، ولا تؤثّر فيه، والأهمّ أنّه لا يؤثّر فيها.

لكن هل هذه العلاقات الدبلوماسيّة التقليديّة تكفي اليوم في ظلّ ما يواجهه لبنان والعروبة والاعتدال من أزمات؟ الوضع اليوم على الصعيد العربيّ يتطلّب دفعاً للقضايا العربيّة على مستوى الرأي العام الدوليّ. فعدد من البلاد العربيّة تتفتّت لعلّة- أو علل- فيها هي نفسها، وبِحَثّ ودفع من دول خارجيّة- عربيّة وغير عربيّة.

لذلك، بما أنّ لبنان لا يزال من الدول العربيّة القليلة المحميّة حتى الآن من أزمة شبيهة، وبما أنّ العالم يشاهد كلّ ما يجري في العالم العربيّ ولا يحرّك ساكناً لمنع حكوماته من تأزيم الوضع، فعلى لبنان التطلّع إلى القيام بما بوسعه في هذا المجال.

وما يعيشه العالم العربيّ بشكل خاصّ يؤثّر سلباً في المجموعات العرقيّة والدينيّة في المنطقة. ومن جملة النتائج أنّ عدداً من هذه المجموعات تبنّت أوّلاً النظرة العدديّة إليها (أي باعتبارها "أقلّيّة")؛ ثمّ راحت، ثانياً، تَنشُد ملجأ- عادة هو لبنان. اختيار لبنان ليس وليدة الصدفة. فلبنان هو فعلاً بلد المكوّنات الكثيرة- وخصوصاً الدينيّة منها. ولبنان بنى لنفسه صورة أيقونية جذابة ترسّخت في أذهان الكثيرين من غير اللبنانيّين.

اللبنانيّون يردّدون بمناسبة وبغير مناسبة أنّ البلد بلد التعايش وأنّه رسالة. قد لا يكون اليوم رسالة بالفعل، ولكنّ ذلك بمقدوره. لبنان في الحقيقة بلدٌ رسالة، لكنّها من غير متلقّ. وهذا هو المطلوب. المتلقّي هو اللبنانيّ نفسه أوّلاً إذ عليه الإيمان بطاقاته الروحيّة والفكريّة المتمثّلة بالاعتدال والعيش الواحد والشراكة في الوطنيّة التي تتجسّد في العيش اليوميّ. والمتلقّي هو أيضاً الرأي العام العالميّ الذي نظن أن ليس ثمة بلد أفضل من لبنان يمكنه مخاطبته باسم العرب.

الوسيلة المثلى هي انتهاج الدبلوماسيّة الثقافيّة اليوم قبل الغد، فهي القادرة على ترسيخ الهويّة الوطنيّة اللبنانيّة في قلوب المغتربين وفي نشر القضايا العربيّة ونقل مفهوم ترسيخ حقوق المكوّنات العديدة وصونها- من نفسها ومن الخارج- بين شعوب العالم. وإذا كانت الحكومة اللبنانية الحالية تُحضّر لإجراء احتفالات بـ"مئويّة لبنان الكبير" في عام 2020 فالأحرى بها أن تقوم بعمل جدّي يتعلّق بثقافة لبنان، الذي في حالته تكاد الدبلوماسية الثقافية أن تكون أيضاً مشروع تواصل مع اللبنانيّين في خارج لبنان.

الدبلوماسيّة الثقافيّة اليوم ضرورة وليست ترفاً. وهي دبلوماسيّة طويلة الأمد تحمل قضايانا إلى أهلنا في الاغتراب وإلى شعوب تلك البلاد، فتربطهم جميعاً بلبنان وبالعالم العربيّ، فلماذا التأخر دائماً؟


* مترجم لبناني وأستاذ اللغة العربيّة في معهد اللغات بجامعة أثينا

المساهمون