"الخيال أهم من المعرفة"، عبارة لآينشتاين، قد تبدو غامضة، لولا استعارة "الدرع والفارس" لمارك تونير التي تفسِّرها أفضل تفسير. يقول: "لعلّ الدرع وسيلة مهمّة للفارس للدفاع عن نفسه. لكنه أقلّ أهميّة من الفارس: صانعِ الدرع، وخوّاضِ الحروب".
للسبب نفسه: الخيال أهمّ من المعرفة، لأنه صانعها. لعلّ سبب الغموض مرتبطٌ أساساً بقاموسنا العربي وثقافتنا السائدة:
المخيّلة، مصنع الخيال، تعني في معظم القواميس العربية: الظن، أو الوهم (تطلق على السحب التي تُحسب ماطرة). أو الكبر (يقال فلان ذو مخيّلة، أي ذو كبر). أما الخيال فهو "ما تشبّه لك في اليقظة والمنام من صورة"، أو "صورة تمثال الشيء في المرآة"، أو "شيء على صورة الإنسان ينصب في الحقول، فتظنّه الحيوانات والطيور إنساناً فتنفر".
فيما المخيلة، في مدلولها اللاتيني الجذري الأول، أتت من "صبَّ، قولبَ، شكّلَ شيئاً من مادة خامّة". أي أن مدلولها مرتبط بالخلق والابتكار. وعندما تطلق صفة "خصب الخيال" على مشروعٍ هندسي أو روايةٍ أدبية، فهي أرقى الشهادات على كونهما ذروة في الإبداع والتجديد والإدهاش.
ليس الفرق، عربياً وغربياً، في المدلول اللفظي لكلمة الخيال فقط، ولكن في القيمة المجتمعية للكلمة. إذ هدف المدرسة في الغرب، إذا لُخِّص بثلاث كلمات: "إطلاق عنان الخيال" للطالب. وسائل ذلك: التساؤل بلا حدود، التفكير بحريّة مطلقة، الرفض والنقد، تعلّم مبادئ السببية والبرهنة لكل الأطروحات.
أما التعليم العربي عموماً فهو سيرورة هدفها العكس تمامًا: كبح جماح الخيال عبر الوسائل النقيضة للوسائل السابقة.
اقــرأ أيضاً
تجليات الفرق في مدلول الخيال، عربيًا وغربيًا، تنعكس في كلِّ المجالات. فنادراً ما يقع الناقد الغربي في مطب اعتقاد أن الرواية التي يقرأها "سيرة ذاتية" لمجرد أن أمّ الراوي صربيّة مثل أم الكاتب مثلاً، أو لأن لهما سنة أو مدينة الميلاد نفسهما، أو المهنة نفسها؛ فيما يكفي الروائي العربي وضع هذا "الطُّعم" غالباً ليسقط القارئ والناقد بسهولة في مطبات الروائي، فيظن أنه التهمَ كلّ أسرار حياة الكاتب، بل يقرأها أحيانًا بتلصصية ضابط استخبارات، حتّى وإن كانت كل الرواية - عدا ذلك الطُّعم الزهيد - تخييلًا خالصًا.
السبب: إشكاليتنا الثقافية والتعليمية تكمن في أن مرجعيتنا التصوّرية: الواقع، ونعتبر الخيال غالبًا هرطقة نتهرب منها، أو "كلامًا فاضيًا" لا نقبله؛ فيما يلزم أن تكون مرجعيتنا: الخيال، وما الواقع إلا حالة استثنائية من تجلياته الممكنة.
لأن الرواية في الأساس: تخييل (Fiction)، ما لم يصرِّح الكاتب أنها سيرة ذاتية؛ أو ما لم تكن ثمّة براهين ملموسة على أن كلّ حدثٍ فيها ينتمي لسيرةٍ حقيقية.
عموماً، لا يتجرأ قارئٌ حكيم إطلاق كلمتي "سيرة ذاتية" لمجرد رؤية إشارة أو إشارتين تعمّدَ الكاتب نصبهما لجرّ القارئ في متاهاته الأثيرة. الحق أنه ليس ثمّة أنبل من الخيال، بكل منتجاته الأدبية والعلميّة.
اقــرأ أيضاً
على الصعيد الأدبي أوّلاً: كل بنات الخيال الروائي تُمثل أرقى الأنواع الروائية، بفضل كميّة الخلق والإبداع فيها؛ أكان ذلك ضمن نمط الروايات التي لا تهمّها محاكاة الواقع أو تحرِّكها الرغبة بإقناع القارئ بحقيقيتها وصدقيتها، مثل الفنتازيا والخيال العلمي، أو نمط روايات التخييل التي تهمّها محاكاة للواقع، لتبدو الرواية كما لو حدثت على أرضيته فعلاً.
ينطلق هذا النمط الثاني من كون "واقعنا المعاش هو أحد العوالم الممكنة"، كما قال دافيد لويس، ومهمة الرواية ليست سرد هذا العالم المعاش، بل الأعداد اللانهائية الممكنة الأخرى التي لم نعشها. أي أن مهمتها الأرقى: سرد واكتشاف عوالم وحيوات جديدة.
تبدو عظمة هذا النمط من كونه يحاكي استعارة "اللوح المحفوظ" الذي يمكن، مجازاً، عدّه: أوّل رواية أدبية! غير أن هذه "الرواية الإلهية"، إن جاز القول، هي الوحيدة التي تجسّدت، من وجهة نظر الدين، على الواقع. أما رواية التخييل فلا يمكن تجسيدها إلا في السينما والعوالم الافتراضية.
لعلّ هذه العلاقة بالاستعارات الدينية، والرغبة الدفينة بالتشبّه بالآلهة، لا تفارق لا وعي الروائي ربما. من يدري، لكأنّه يحاول تقمّص دور "علّام الغيوب" عندما يحاول كتابة رواية استشرافية لمستقبل البشرية، كي تمرّ كسيناريو معقول لمستقبلٍ إنسانيٍّ ممكن!
إذا كانت إمكانية الخيال الإنساني لا حدّ لها في المجال الأدبي، فهي كذلك تماماً في المجال العلمي. كل الاكتشافات والبراهين والاختراعات العلمية تنبجس دوماً من ملكات الإنسان الخيالية. تنطلق دوماً من تساؤلات جديدة، وفرضيات فضولية، وتصوّرات لعلاقات مبتكرة.
فعندما تساءل آينشتاين مثلاً إذا كان سيرى نفسه في المرآة وهو يتحرك وإياها بسرعة الضوء في الوقت نفسه، قاد ذلك إلى اكتشاف أن سرعة الضوء ثابتة ومستقّلة عن كل المراجع.
مثال آخر: المسلّمة الخامسة لإقليديس تقول: "من نقطة خارج خط مستقيم، لا يمر إلا خط مستقيم واحد موازٍ له". وقد لاحظ علماء الرياضيات في القرن السابع عشر أنه لا يمكن برهنتها رياضياً. ثم برهن لوباتشسفسكي في القرن التاسع عشر استحالة برهنتها.
قاده ذلك، وقاد علماء رياضيات كبار، كجوس وريمان، إلى دراسة هندسات أخرى في "فضاءات خيالية"، خالية من هذه المسلّمة الإقليديسية.
اقــرأ أيضاً
وجدوا أنفسهم أمام هندسة ريمان "الكرويّة"، حيث عدد زوايا المثلث أكثر من 180 درجة، وهندسة أخرى عدد زوايا المثلث فيها أقل من من 180 درجة!
لم يكن هذا الخيال عبثيًا قط، لأن الفيزياء الحديثة، لا سيّما نظرية النسبية، مبنية على الهندسة "الريمانية" في فضاء منحن.
المثير أن ثمّة تشابهًا ما في مسعى كتابة رواية التخييل وبرهنة نظرية رياضية: تنبثقان كلاهما، مثل بقية النشاطات الإبداعية، من سيرورات دماغية متشابهة. (ألم يقل بيكاسو: "لو كنت صينيّاً لكنت كاتباً"؟ كما لو كانت اللوحة رواية، والرواية لوحة. أي كما لو كانا مثل الطاقة الكهربائية والميكانيكة: يمكن تحويل الأولى إلى ثانية، والعكس صحيح!
إذ يتخيّل عالم الرياضيات، من وحي حدسه وقناعاته وأدوات عمله، نصّ صيغة نظرية رياضية جديدة، تماماً كما يؤثث الروائي الخطوط العامة الكبرى لمشروع روايته، فوق صرح واقع زماني مكاني اجتماعي ما.
تبدأ بعدها مغامرة صاحب الرياضيات لمحاولة برهنة نظريته، عبر سلسلة من التحوّلات والفصول المستندة إلى كل الفرضيات والحقائق والنظريات والعلاقات المبرهنة.
كذلك حال الروائي وهو يتقدَّم في مشروعه، وإن كانت أدواتهما مختلفة: الكلمات هنا، والكائنات الرياضية هناك. الإيحاء والاستعارة هنا، والبرهان الدقيق هناك.
يقول الروائي الروسي الكبير فلاديمير ماكانين، في مقابلة معه في صحيفة "رسائل روسيا": "أكتب الرواية مثلما ألعب الشطرنج: قبل البدء أعرف أني سألعب بالقطع البيض أو السود. إذا قرّرتُ اللعب بالبيض فأحافظ على الإيقاع نفسه، لا أضيع الهدف. وإذا اخترتُ السود أتقدّم ببطء، أدرس كل خطوة، أستوعب موضوعي بعمق وكمال. من يختر القطع السود لا يبحث عن النصر، لكن عن هزيمة العدو".
إذا قارنّا الشطرنجَ بالموسيقى، فمن يلعب بالقطع البيضاء كمن يعزف كونشيرتو، ومن يلعب بالسوداء كمن يعزف سيمفونية... كتبتُ رواية آسان لعباً بالقطع البيضاء"... وكتب بالتأكيد سيمفونية روايته: "منضدة تتوسّطها قطيفةٌ وكوز" وهو يلعب بالقطع السوداء!
المثير هنا أن فلاديمير ماكانين كان باحثاً في الرياضيات، قبل توجهه للرواية فقط. وشقيقه غينادي ماكانين، أحد أكبر علماء الرياضيات الروس المعاصرين، كان شاعراً قبل أن يتوجّه للرياضيات فقط. كلاهما كانا لاعبي شطرنج روسيين مرموقين.
الأكثر إثارة: الثاني أيضاً يعتبر أن برهنة نظرية رياضية لا يختلف عن مباراة شطرنج ينتصر فيها الخيال على الواقع!
المخيّلة، مصنع الخيال، تعني في معظم القواميس العربية: الظن، أو الوهم (تطلق على السحب التي تُحسب ماطرة). أو الكبر (يقال فلان ذو مخيّلة، أي ذو كبر). أما الخيال فهو "ما تشبّه لك في اليقظة والمنام من صورة"، أو "صورة تمثال الشيء في المرآة"، أو "شيء على صورة الإنسان ينصب في الحقول، فتظنّه الحيوانات والطيور إنساناً فتنفر".
فيما المخيلة، في مدلولها اللاتيني الجذري الأول، أتت من "صبَّ، قولبَ، شكّلَ شيئاً من مادة خامّة". أي أن مدلولها مرتبط بالخلق والابتكار. وعندما تطلق صفة "خصب الخيال" على مشروعٍ هندسي أو روايةٍ أدبية، فهي أرقى الشهادات على كونهما ذروة في الإبداع والتجديد والإدهاش.
ليس الفرق، عربياً وغربياً، في المدلول اللفظي لكلمة الخيال فقط، ولكن في القيمة المجتمعية للكلمة. إذ هدف المدرسة في الغرب، إذا لُخِّص بثلاث كلمات: "إطلاق عنان الخيال" للطالب. وسائل ذلك: التساؤل بلا حدود، التفكير بحريّة مطلقة، الرفض والنقد، تعلّم مبادئ السببية والبرهنة لكل الأطروحات.
أما التعليم العربي عموماً فهو سيرورة هدفها العكس تمامًا: كبح جماح الخيال عبر الوسائل النقيضة للوسائل السابقة.
السبب: إشكاليتنا الثقافية والتعليمية تكمن في أن مرجعيتنا التصوّرية: الواقع، ونعتبر الخيال غالبًا هرطقة نتهرب منها، أو "كلامًا فاضيًا" لا نقبله؛ فيما يلزم أن تكون مرجعيتنا: الخيال، وما الواقع إلا حالة استثنائية من تجلياته الممكنة.
لأن الرواية في الأساس: تخييل (Fiction)، ما لم يصرِّح الكاتب أنها سيرة ذاتية؛ أو ما لم تكن ثمّة براهين ملموسة على أن كلّ حدثٍ فيها ينتمي لسيرةٍ حقيقية.
عموماً، لا يتجرأ قارئٌ حكيم إطلاق كلمتي "سيرة ذاتية" لمجرد رؤية إشارة أو إشارتين تعمّدَ الكاتب نصبهما لجرّ القارئ في متاهاته الأثيرة. الحق أنه ليس ثمّة أنبل من الخيال، بكل منتجاته الأدبية والعلميّة.
ينطلق هذا النمط الثاني من كون "واقعنا المعاش هو أحد العوالم الممكنة"، كما قال دافيد لويس، ومهمة الرواية ليست سرد هذا العالم المعاش، بل الأعداد اللانهائية الممكنة الأخرى التي لم نعشها. أي أن مهمتها الأرقى: سرد واكتشاف عوالم وحيوات جديدة.
تبدو عظمة هذا النمط من كونه يحاكي استعارة "اللوح المحفوظ" الذي يمكن، مجازاً، عدّه: أوّل رواية أدبية! غير أن هذه "الرواية الإلهية"، إن جاز القول، هي الوحيدة التي تجسّدت، من وجهة نظر الدين، على الواقع. أما رواية التخييل فلا يمكن تجسيدها إلا في السينما والعوالم الافتراضية.
لعلّ هذه العلاقة بالاستعارات الدينية، والرغبة الدفينة بالتشبّه بالآلهة، لا تفارق لا وعي الروائي ربما. من يدري، لكأنّه يحاول تقمّص دور "علّام الغيوب" عندما يحاول كتابة رواية استشرافية لمستقبل البشرية، كي تمرّ كسيناريو معقول لمستقبلٍ إنسانيٍّ ممكن!
إذا كانت إمكانية الخيال الإنساني لا حدّ لها في المجال الأدبي، فهي كذلك تماماً في المجال العلمي. كل الاكتشافات والبراهين والاختراعات العلمية تنبجس دوماً من ملكات الإنسان الخيالية. تنطلق دوماً من تساؤلات جديدة، وفرضيات فضولية، وتصوّرات لعلاقات مبتكرة.
فعندما تساءل آينشتاين مثلاً إذا كان سيرى نفسه في المرآة وهو يتحرك وإياها بسرعة الضوء في الوقت نفسه، قاد ذلك إلى اكتشاف أن سرعة الضوء ثابتة ومستقّلة عن كل المراجع.
مثال آخر: المسلّمة الخامسة لإقليديس تقول: "من نقطة خارج خط مستقيم، لا يمر إلا خط مستقيم واحد موازٍ له". وقد لاحظ علماء الرياضيات في القرن السابع عشر أنه لا يمكن برهنتها رياضياً. ثم برهن لوباتشسفسكي في القرن التاسع عشر استحالة برهنتها.
قاده ذلك، وقاد علماء رياضيات كبار، كجوس وريمان، إلى دراسة هندسات أخرى في "فضاءات خيالية"، خالية من هذه المسلّمة الإقليديسية.
لم يكن هذا الخيال عبثيًا قط، لأن الفيزياء الحديثة، لا سيّما نظرية النسبية، مبنية على الهندسة "الريمانية" في فضاء منحن.
المثير أن ثمّة تشابهًا ما في مسعى كتابة رواية التخييل وبرهنة نظرية رياضية: تنبثقان كلاهما، مثل بقية النشاطات الإبداعية، من سيرورات دماغية متشابهة. (ألم يقل بيكاسو: "لو كنت صينيّاً لكنت كاتباً"؟ كما لو كانت اللوحة رواية، والرواية لوحة. أي كما لو كانا مثل الطاقة الكهربائية والميكانيكة: يمكن تحويل الأولى إلى ثانية، والعكس صحيح!
إذ يتخيّل عالم الرياضيات، من وحي حدسه وقناعاته وأدوات عمله، نصّ صيغة نظرية رياضية جديدة، تماماً كما يؤثث الروائي الخطوط العامة الكبرى لمشروع روايته، فوق صرح واقع زماني مكاني اجتماعي ما.
تبدأ بعدها مغامرة صاحب الرياضيات لمحاولة برهنة نظريته، عبر سلسلة من التحوّلات والفصول المستندة إلى كل الفرضيات والحقائق والنظريات والعلاقات المبرهنة.
كذلك حال الروائي وهو يتقدَّم في مشروعه، وإن كانت أدواتهما مختلفة: الكلمات هنا، والكائنات الرياضية هناك. الإيحاء والاستعارة هنا، والبرهان الدقيق هناك.
يقول الروائي الروسي الكبير فلاديمير ماكانين، في مقابلة معه في صحيفة "رسائل روسيا": "أكتب الرواية مثلما ألعب الشطرنج: قبل البدء أعرف أني سألعب بالقطع البيض أو السود. إذا قرّرتُ اللعب بالبيض فأحافظ على الإيقاع نفسه، لا أضيع الهدف. وإذا اخترتُ السود أتقدّم ببطء، أدرس كل خطوة، أستوعب موضوعي بعمق وكمال. من يختر القطع السود لا يبحث عن النصر، لكن عن هزيمة العدو".
إذا قارنّا الشطرنجَ بالموسيقى، فمن يلعب بالقطع البيضاء كمن يعزف كونشيرتو، ومن يلعب بالسوداء كمن يعزف سيمفونية... كتبتُ رواية آسان لعباً بالقطع البيضاء"... وكتب بالتأكيد سيمفونية روايته: "منضدة تتوسّطها قطيفةٌ وكوز" وهو يلعب بالقطع السوداء!
المثير هنا أن فلاديمير ماكانين كان باحثاً في الرياضيات، قبل توجهه للرواية فقط. وشقيقه غينادي ماكانين، أحد أكبر علماء الرياضيات الروس المعاصرين، كان شاعراً قبل أن يتوجّه للرياضيات فقط. كلاهما كانا لاعبي شطرنج روسيين مرموقين.
الأكثر إثارة: الثاني أيضاً يعتبر أن برهنة نظرية رياضية لا يختلف عن مباراة شطرنج ينتصر فيها الخيال على الواقع!