الخيارات الإسرائيلية تجاه أنفاق غزة

10 مارس 2016

عسكري إسرائيلي في نفق مع غزة (يوليو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
بدون مقدمات، استهلت إسرائيل العام الجديد 2016، بالحديث عن المخاطر الناجمة عن الأنفاق التي تحفرها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) داخل غزة، وعلى حدودها، وخرجت تصريحات جنرالاتها، وارتفعت نبرة ساستها، تعتبر أن هذه الأنفاق باتت تهديداً حقيقيا جاداً، ينبغي التعامل معه بالسرعة المطلوبة، قبيل استفحال خطره.

ووفق المتداول لدى خبراء أمنيين وعسكريين، إسرائيليين وفلسطينيون، متوسط طول النفق 2500 متر، ويقدّر عرضه حسب تصاوير الفيديو المتداولة في وسائل الإعلام نحو 1.2 مترا، وارتفاعه نحو 2.2 متراً، شاملاً سمك الجدران الخرسانية، أي أن حجمه يبلغ نحو 6600 متر مكعب، ما يعني أن كمية الرمال التي يتم إخراجها منه تعادل نحو 365 شاحنة، بحيث يمكن تخيّل أن كمية الحفر تعادل نحو 660 ألف دلو من الرمال، نحو ثلثي مليون دلو، وكل هذا يتم حفره تحت الأرض، ونقله يدوياً أو بمعدّات ميكانيكية بسيطة، وكل دلو منها تحرّك تحت الأرض مسافة متوسطها 1250 مترا.

وفيما لو كان حفار الأنفاق الفلسطيني المقاوم يحمل في كل مرة عشرة دلاء، بواسطة آلة ميكانيكية بسيطة، يكون مجموع المسافات التي تقطع لنقل كمية الرمال ذهاباً وإياباً، وإخراجها خارج النفق نحو 165 مليون متر، أو 165 ألف كيلو متر، بما يعادل طول البحر الأحمر 80 مرة، أو طول المسافة بين رفح والقاهرة نحو 400 مرة، فضلاً عن أن الأنفاق يتم كساؤها ببلاطاتٍ من الخرسانة المسلحة، عرض البلاطة الواحدة 50 سم، ما يعني أن رجال المقاومة يستخدمون 15 ألف بلاطة للجدران والسقف، كلها يتم نقلها داخل النفق مسافة متوسطها 1250 مترا.

وتبلغ المسافة التي يتم قطعها لنقل البلاطات ذهاباً وإياباً 18 ألف كيلو متر، تعادل طول البحر الأحمر نحو 9 مرات، أو طول المسافة بين رفح والقاهرة نحو 46 مرة، فضلاً عن أعمال الحفر والتركيب، وهذا الجهد المبذول في أنفاق غزة لم يصادف مثله من قبل في حفر نفق بهذا الحجم، بعمل يدوي وآلاتٍ بسيطة، ويدل على الإصرار والقدرة الأمنية الهائلة، فيما يتطلب بناء النفق 800 طن من الإسمنت المسلّح، وبلغت كلفته التقديريّة عشرة ملايين دولار، كما عدد من يعمل في حفر النفق يزيد عن مائة عنصر، ويحوي النفق شبكة اتصالات وكهرباء، حيث أن حفاري الأنفاق في غزّة يعرفون أماكن وجود المجسّات على الجدار الأمني، ويتحايلون عليها، ويستطيعون خداع الطائرات من دون طيار التي تحوم في أجواء غزّة على مدار الساعة، وتقوم بتصوير سطح الأرض بواسطة الأشعّة السينيّة.

وقد حاولت عشرات المقالات والدراسات الأمنية والعسكرية أن تضع خريطة طريق لصناع القرار الإسرائيلي في كيفية التعامل مع هذه الأنفاق، من النواحي العملياتية الميدانية، وأهمها:

الضربة الاستباقية
يرى فريق واسع من الجنرالات الإسرائيليين، النظاميين والاحتياط، أن أحد عوامل قوة الردع الإسرائيلية يكمن في سياستها العسكرية المعلنة بتوجيه ضربات استباقية للعدو، في أكثر من مناسبة، ويمكن تكرار ذلك في التعامل مع أنفاق غزة، لأنه في الحالات التي ذهبت فيها إسرائيل إلى ضرباتٍ استباقيةٍ نجحت في كبح جماع العدو، وإرجاء ساعة المواجهة العسكرية الضارية، من خلال حرب 1956 ضد مصر بسبب صفقة الأسلحة التشيكية، وحرب 1967 مع تنامي قوة الجيش المصري، وحرب 1982 ضد منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وفي المرّات التي لم تسارع فيها إسرائيل إلى الضربات الاستباقية، كانت الكارثة تحيط بها من كل جانب، وأكبر مثال على ذلك حرب 1973.
يستلهم أصحاب نظرية الضربة الاستباقية ضد أنفاق غزة هذه النماذج، لتعزيز الذهاب إلى هذا الخيار، حتى يحرم حركة حماس من الاستخدام الفعال لهذه الأنفاق في أي مواجهة عسكرية مقبلة، والعمل على إحباط أي مخططات عسكرية لتنفيذ عمليات مسلحة من خلال هذا السلاح الاستراتيجي الذي باتت تملكه الحركة خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في 2014 وبعده.
يرى مروجو فرضية الضربة الاستباقية ضد أنفاق غزة أن "حماس" تسابق الزمن لترميم منظومتها من الأنفاق ليل نهار، وتسعى إلى أن تكون جاهزة للاستخدام، في وقتٍ تندلع فيه الحرب الرابعة على غزة، ولئن تمكّنت إسرائيل من الحد من مخاطر القذائف الصاروخية الفلسطينية عبر منظومة القبة الحديدية، فإنها قد تقف عاجزةً أمام تهديد الأنفاق الجديد، وهو ما يمنح حماس ورقة عسكرية ميدانية، الأمر الذي يؤهلها لانتزاع ما يعرف بـ"صورة الانتصار" المتمثلة بخروج عشرات المسلحين من تحت أرض غزة باتجاه التجمعات الاستيطانية الإسرائيلية الجنوبية على حدود غزة، وتنفذ عملية مسلحة بقتل عدد من الإسرائيليين واختطافهم.
هذا سيناريو ترى أوساط نافذة في إسرائيل أنه بات محتوماً، إن لم تذهب إلى ضربة استباقية لضرب ما تقع عليه ذراع سلاح الجو الإسرائيلي على حدود غزة الشرقية، بحيث يستفيق الفلسطينيون ذات ساعة على إغارة أسرابٍ من الطائرات الإسرائيلية على طول حدود غزة، لضرب ما تيسّر لها من الأنفاق، وأخذ استراحة من الزمن من استمرار "صداع الرأس المزمن" لصناع القرار العسكري والسياسي في إسرائيل.
الإشكال الذي يواجه أصحاب نظرية الضربة الاستباقية، أنها لن تقضي على أنفاق غزة، سواء
الدفاعية داخل القطاع أو الهجومية على الحدود، لأن إسرائيل تفتقر لكامل البنية المعلوماتية الاستخبارية الدقيقة عن أماكن وجود هذه الأنفاق وانتشارها، المداخل والمخارج، البدايات والنهايات، ربما يكون لديها أطراف خيط عن هذا أو ذاك، لكن في أرض غزة وباطنها من الأسرار ما قد تعجز عن النيل منه أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، على الرغم مما تنشره من آليات تجسس وتنصت ومتابعة مراقبة.
في الوقت نفسه، لن تواجه "حماس" ضربة استباقية على هذا النحو، كما يبدو، بالانتظار والتريث، لأنها تعني باختصار اندلاع حربٍ جديدة في غزة، ستكون أكثر ضراوة على الجانبين من سابقاتها، والإسرائيليون، كما الفلسطينيين، لم ينتهوا بعد من لملمة جراحاتهم ومعاناتهم من الحرب السابقة، وهو ما يجعل إسرائيل تعلن أنها لا تريد مثل هذه الحرب، على الأقل في الوقت الحالي.

الحلول التكنولوجية
المقصود هنا محاولة العثور على هذه الأنفاق، نفقاً بعد آخر، في عملية تكنولوجية باستخدام معدات وتقنيات متطورة، وبالاستناد إلى تجارب عالمية في هذا المضمار، مثل أنفاق المكسيك على الحدود الأميركية، وأنفاق الكوريتين، وأنفاق فيتنام، وهي تجارب تمثل، على المدى البعيد، حلاً لتهديد أنفاق غزة، قد لا يكون سريعاً وعاجلاً، لكنه، على المديين المتوسط والبعيد، يمنح إسرائيل فرصة الاستراحة منها سنوات عديدة مقبلة.

بات سكان غزة يرون، في الأسابيع الأخيرة، حفاراتٍ ومعداتٍ هندسيةٍ كثيرة يقترب عددها من المائة، تصطف يوميا على حدودها الشرقية، تفحص عيون الأنفاق التي تخرج من غزة باتجاه إسرائيل وتتعقبها وتتابعها، وهو ما ألمحت إليه الأخيرة في أكثر من تصريح وإعلان، على اعتبار أن هذا الإجراء يحقق لها ما تريد، عبر كشف الأنفاق، وتعطيلها، وإحباطها، تقنياً وتكنولوجياً، من دون الحاجة لإطلاق رصاصة واحدة.

يزداد ترجيح فرضية الحلول التكنولوجية، عقب إعلان واشنطن تبرعها لتل أبيب بـ 120 مليون دولار لتطوير هذه الإجراءات، وهو ما عكفت عليه وزارة الحرب الإسرائيلية، واستقدمت من أجله كفاءات علمية وأكاديمية من داخل إسرائيل وخارجها، ويبدو أنها مطمئنة لنجاعة هذه الحلول، على الرغم من أنها تستغرق وقتاً لا بأس به.
في الوقت نفسه، تبدي دوائر صنع القرار في إسرائيل قلقها من طبيعة رد الفعل المتوقع من حركة حماس، في حال اكتشفت معدات الجيش الإسرائيلي نفقاً ثقيل العيار، يوشك أن تستخدمه الحركة في عمليةٍ مسلحة لها، حيث يتساءل الإسرائيليون: هل تنتظر حماس تعطيل هذا النفق مثلاً، وعدم المبادرة إلى أي رد فعل تجاه إسرائيل، أم أنها لن تفرّط بتعب الأيام والأسابيع والشهور، وحبات العرق والدم التي سالت من حفاريها في باطن الأرض، وتذهب للرد على إسرائيل، حتى لو كان الثمن اندلاع حرب ضارية؟
في مثل هذا الواقع، تعتقد إسرائيل أنها تدير مع حماس لعبة "القط والفأر"، وفق صيغة" من يسبق من؟ فهل تنجح إسرائيل في إحباط مخططات حماس العسكرية عبر أنفاقها الحدودية، قبيل استخدامها بصورة فعالة، أم تتمكّن الحركة من تفعيل هذا السلاح في مواجهة إسرائيل، قبيل أن تطاله يد التكنولوجيا الإسرائيلية الطويلة؟

الجهد الأمني
وهو سيناريو يتمثل بألا تبادر إسرائيل إلى عملية استباقية، أو حلول تكنولوجية ضد أنفاق غزة،
وتفضل الانتظار ريثما تصل معلومات أمنية دقيقة بقرب تنفيذ عملية مسلحة، من خلال أي منها باتجاه التجمعات الاستيطانية الإسرائيلية في الجنوب. وهنا تلجأ إسرائيل إلى تفعيل أدواتها التجسسية، البشرية منها والتقنية، الأرضية والجوية، في محاولة منها للعثور على أي معلومة قد تصل إليها عن نفق هنا ونفق هناك وثالث هنالك، بحيث تضعه تحت المجهر، وعند الدقيقة التسعين تقوم باستهدافه.
يبدو أن الإسرائيليين يستبعدون هذا الخيار في هذه المرحلة، لأنه ينتظر قرب حلول نقطة الصفر، وحينها لا يمتلك الجيش الإسرائيلي بوليصة تأمين، بألا تكون حماس قد نجحت في إخراج عمليتها إلى حيز التنفيذ، لاسيما وأن الجانبين يديران حرب أدمغة، وصراع عقول حامي الوطيس، وربما يمرّران لبعضهما معلوماتٍ أمنيةً تضليلية، وهنا قد يقع المحظور من جهة إسرائيل. ولكن، بعد فوات الأوان.
إنْ كان من ثمة إيجابية لهذا الخيار، فهو يعمل على إرجاء الحرب مع حماس أطول فترة زمنية ممكنة، وربما يجعل الأمر مقتصراً على عملية "جراحية" موضعية في أحد الأنفاق، من دون اللجوء إلى توسيع أفقها الزماني وقطرها المكاني، بين الجانبين، على الرغم من أن ذلك أيضاً غير مضمون العواقب، لكنه، على كل الأحوال، يبقى أقل الخيارات العسكرية كلفةً أمام إسرائيل في مواجهة الأنفاق.
توضح مراجعة دقيقة لهذه الخيارات الإسرائيلية، وقد تكون هناك خيارات أخرى، أن إسرائيل في مواجهة أنفاق غزة، تفاضل بين خيار سيئ وأقل سوءاً، بديل مكلف وأقل كلفة، ما يعني أنها غادرت، منذ زمن، المفاضلة بين خيارين، سيئ وحسن، لأن الأنفاق، بحد ذاتها، أوجدت أمامها واقعاً إشكاليا معقدا، دفعت مقابله ثمناً باهظاً، في حرب غزة الأخيرة، وهو ما يفتح شهية حماس على جباية أثمان أخرى، أكثر كلفة من إسرائيل، عبر هذه الأنفاق في المواجهة المقبلة.

الصفقة السياسية
تزداد في إسرائيل، في الآونة الأخيرة، دعوات متواصلة من أوساط سياسية وأمنية وعسكرية سابقة وحالية، تطالب بالبحث عن خياراتٍ أخرى، ليست سياسية بحتة أو عسكرية مباشرة، وإنما ذات بعد اقتصادي بحت، وتتعلق، بالدرجة الأولى، بعقد صفقة شاملة مع حماس التي تسيطر على غزة، سواء بشكل مباشر بينهما، وهذا مستبعد، أو عبر وسيط ثالث، وهو الأكثر ترجيحا.
تهدف إسرائيل من هذه الصفقة إلى إبعاد شبح مخاطر الأنفاق، وإمكانية تسببها باندلاع حرب 
وشيكة مع حماس، بإقامة تخفيف الكارثة الإنسانية السائدة في غزة، والعمل على تقديم تسهيلاتٍ معيشية، قد تصل ذروتها بالموافقة الإسرائيلية على إقامة ميناء في غزة، سواء على شاطئ مدينة غزة، أو في عرض البحر المتوسط، برقابة أمنية أوروبية في الحالتين.
الرابط الإسرائيلي بين المخاوف من الأنفاق والتسهيلات الاقتصادية، أن التقدير السائد في تل أبيب يفيد بأن حماس قد تفقد صبرها على تدهور الأوضاع المعيشية للفلسطينيين في غزة، وتخشى أن تنفجر الأمور في وجهها، ما سيجعلها توجّه دفة هذا الانفجار باتجاه إسرائيل، وهو آخر ما ترغب به الأخيرة.
ولعل الملفت أن الداعين إلى إقامة الميناء في غزة جملة من الجنرالات العسكريين الإسرائيليين، ممن يقدّرون خطورة الموقف، ويعتقدون أن التجربة السابقة لإسرائيل في حروب غزة الثلاث الماضية، تحتّم الحاجة لترحيل أي مواجهة قادمة مع حماس، من باب نزع الذرائع التي قد تدفعها إلى الاستمرار في التحضيرات لأي حرب.

المزايدات الحزبية
هناك عامل مستجد دخل على خط الخيارات الإسرائيلية في التعامل مع أنفاق غزة، ويتمثل بحالة المزايدات الحزبية والاستقطابات السياسية داخل إسرائيل، دفعت بأحزاب المعارضة الإسرائيلية، من الوسط ويسار الوسط، إلى الضغط على الحكومة بضرورة التحرك لمواجهة أنفاق غزة، قبيل استفحال خطرها، ما أظهر هذه الحكومة اليمينية وكأنها تحاول كبح جماح المعارضة الوسط التي بدت في نداءاتها أكثر صقورية من رموز اليمين الديني والقومي الذي يحكم إسرائيل منذ سنوات. وعلى الرغم من أن هذا الاستقطاب الإسرائيلي الداخلي يبقى في الإطار الدعائي الداخلي، إلا أن استمراره قد يشكل مصدر إزعاج لرئيس الحكومة الذي يوجه عينيه، واحدة إلى أنفاق غزة والثانية إلى صندوق الاقتراع في الانتخابات، ويخشى أن تكون مسألة الأنفاق مادة دسمة للدعاية الانتخابية لخصومه المتوقعين في أي انتخابات مقبلة.
أخيراً.. ربما تبقى مواجهة الأنفاق مدار حديثٍ سائد في الأوساط العسكرية والأمنية في إسرائيل، ترتفع وتنخفض حسب الوتيرة القائمة، لكنها تشكل مصدر إرهاق واستنزاف في التفكير الميداني والإجراءات العملياتية لدى الجيش الإسرائيلي الذي يخشى أن يخوض الحرب المقبلة مع المقاتلين الفلسطينيين في الظلام تحت الأرض وسط أنفاق غزة. ولذلك، فهو يتحضر ويجري المناورات على هذا النوع الجديد من المعارك.
وربما يزداد الجهد الأمني الاستخباري والحلول التكنولوجية الإسرائيلية، في الفترة القريبة المقبلة، بعيداً عن الإعلام في متابعة وملاحقة أي جهد عملياتي من حركة حماس لمواصلة حفر أنفاقها، والقضاء على ما تسميه إسرائيل "مدينة غزة التحت أرضية"، بجانب زيادة التسهيلات المعيشية بصورة محدودة، خشيةً من انفجار قريب للأوضاع الأمنية في غزة، استمراراً للسياسة الإسرائيلية القديمة الجديدة بأن "غزة لا تحيا ولا تموت".

1CF9A682-2FCA-4B8A-A47C-169C2393C291
عدنان أبو عامر

كاتب وباحث فلسطيني، دكتوراة في التاريخ السياسي من جامعة دمشق، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة في غزة، له العديد من المؤلفات والأبحاث والدراسات والمقالات.