الخوري يوسف: حبّ مسيحيّ - إسلاميّ لمئة عام

20 اغسطس 2015
أهل عرمتى في بداية القرن الماضي (العربي الجديد)
+ الخط -
تكاد لا تخلو جلسة من جلسات أبناء بلدة عرمتى الجنوبية لا يُذكر فيها اسم الخوري يوسف. يروح الرجال والنساء يترّحمون عليه ويذكرونه بكلّ خير.

وعرمتى، لمن لا يعرفها، قرية ذات طابع إسلامي شيعي في جنوب لبنان. علماً أنّها تعتبر من البلدات المختلطة طائفياً، إذ يلحظ الباحث في سجّلات البلدة وجود بعض العائلات المسيحية المسجّلة، والتي غادرتها قبيل وبعد الاحتلال الاسرائيلي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. لكن يتذكّر من عايشوا تلك المرحلة وجود هؤلاء المسيحيين قبل تهجّرهم وهجرتهم إلى خارج لبنان.

اقرأ أيضاً: يوميات سوريّ يبحث عن بيت في لبنان

فتعاقُب الحروب والظروف الأمنية السيئة التي عاشها الجنوب اللبناني بشكل عام، دفع بالكثير من أبناء القرى الحدودية إلى مغادرتها، إما إلى المدن، أو إلى المغتربات الكثيرة.
وتكرار اسم الخوري يوسف على لسان أبناء بلدة عرمتى، في معظم جلساتهم، دفعني إلى البحث والنبش في تاريخ هذه الشخصية التي يبدو أنّها تركت أثراً طيّباً بهذا الحجم على من هم ليسوا من ملّته. وهذا نادر في لبنان، وفي شرقنا العربيّ كلّه.

تبيّن أنّ الخوري يوسف حبيقة عاش في مطلع القرن الماضي، وتحديداً خلال فترة الانتداب الفرنسي للبنان، وفترة إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920، حتّى مرحلة الاستقلال في أربعينيّات القرن الماضي. ويذكر تاريخه أنّه كان جزءاً من سكن بعض العائلات المسيحية في تلك الفترة على مساحة صغيرة تعرف بـ"الحارة " في مزارع تعرف اليوم بمنطقة "عاضور" بين قريتي عرمتى والريحان في سفح جبل الريحان من جهة الشرق.

من هذه العائلات: حرفوش، وطعمة، ووديع، بالإضافة إلى حبيقة، عائلة الخوري يوسف. كان هؤلاء يعتاشون من الزراعة. واهتمامهم الزراعي ركّز في تلك الفترة على زراعة شجر الصنوبر. الصنوبر الذي صمد ولم ينسَ زارعيه حتّى اليوم، كأبناء عرمتى.

اقرأ أيضاً: عندما صفعتُ نبيه بري بكفّي على خدّه

فرغم مرور حوالى القرن على انقضاء حقبة الخوري يوسف، وبعد أن مات كلّ من عرفه وعايشه، بقيت مأثوراته حيّة تتناقلها الألسن من جيل إلى جيل. وبالإضافة إلى الصفات الطيبة والسيرة الذاتية المؤثرة للأب يوسف، استوقفني أمر عظيم. إذ يقول أحدهم إنّ المرحومين، الحاج علي ديب الحاج والحاج طالب سليم والمختار علي سليمان محمد والحاج قاسم صبرا، ووالد فلان وآخرين... كانوا جميعاً في صفّ تعليمي واحد، يدرّسهم الخوري يوسف.

كان الصفّ عبارة عن غرفة اجتزأها من بيته في عاضور. والملفت أنّ الخوري كان يعلّم أبناء البلدة وأبناء البلدات المجاورة من المسلمين في كتاب القرآن الكريم، وليس كما هو حال التعليم على أيدي الراهبات في المدن، سابقاً وحاضراً. أي ليس مرتبطاً باللغات الأجنبية وبالكنيسة. فكلّ من درس وتتلمذ على يديه حفظ القرآن الكريم. وكان القرآن مصدر تعليمه الديني واللغوي والمعرفي.

حملت الخوري يوسف قصّة ورحت أرويها وأذكر حاجتنا إلى رجال متنوّرين وعقول منفتحة، من المسلمين والمسيحيين، السنّة والشيعة، يدركون "الآخر" وأسراره، ويعرفون كيف يحدّثون هذا "الآخر" بلغته وبحبّ لا يزال يفيض على ألسنة عرمتى والقرى المجاورة لها بعد 100 عام.

اقرأ أيضاً: حكواتي: كيف كنّا نطبخ القمح والحبّ

تلحّ عليّ حكاية الخوري يوسف كلّما ندر أمثاله وصار الدين مرادفاً للقتل والموت في أيّامنا هذه، وصارت لغة معظم رجال الدين هي لغة العنف والإرهاب. وفي أثناء حديثي ذات مرّة عن قيمة الخوري يوسف أمام أحد الأصدقاء المسيحيين، قاطعني ليخبرني عن نموذج آخر لا يقلّ عظمة وصاحب فضائل لا تحصى.

حدّثني صديقي عن الأب طانيوس منعم، المعروف بـ"الخوري الأحمر"، بسبب انحيازه إلى اليساريين والفكر الاشتراكي، وقضايا الفقراء. وهو من قرية "اجدبرا" البترونية، وكان مثل الخوري يوسف، صاحب عقل تنويري متميّز بانفتاحه على الطوائف الأخرى. إلى درجة أوصلته إلى خلاف مع كنيسته. وقد احتدم خلافه مع الكنيسة حين شارك في تشييع صديقه من طائفة الروم الأرثوذكس.

كان الخوري الأحمر يبدأ قدّاسه بالبسملة: "بسم الله"، بدلاً من "بسم الآب والابن والروح القدس"، وفي يقينه أنّ الإله هو واحد في ثلاثة أقانيم، وهو نفسه الإله الواحد الذي يتبعه المسلمون... كم نفتقد هذه الطينة من الرجال في أيّامنا هذه.

اقرأ أيضاً: حكواتي: السحر انقلب على الساحر فضيّع العريس

المساهمون